الزاوي: رواية "هديل سيدة حرة" للبشير الدامون.. في انتظار حمامة السلام

الزاوي: رواية "هديل سيدة حرة" للبشير الدامون.. في انتظار حمامة السلام مولاي عبد الحكيم الزاوي
 بين الأدب والتاريخ نُسجت علاقة قرابة امتدت بهما لعهود طويلة من الزمن، إلى أن فرضت عليهما تحولات ابستمولوجيا القرن التاسع عشر أن يستعجلا بإعلان وثيقة الانفصال. منذئذ بدأ الدعوة إلى تسييج المعرفة التاريخية ممن كانوا يسمون ب"الدخلاء" تتسع؛ وجرى نقل التاريخ من كتابة هاوية نحو كتابة متخصصة...ظن البعض أن بهذه المحاولة الجريئة، تم تشييع الأدب إلى مثواه الأخير، وفصل التاريخ عن الأدب، ليخرج الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، في لحظة تصادم علني مع مؤرخي مدرسة الحوليات الفرنسية في التاريخ منافحا عن مركزية السرد في كتابة التاريخ، وأن التاريخ لا يعدو أن يكون في العمق سوى سرد وحبكة مُقنعة بالتاريخ. 

جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وعاضد البعض عن كون التاريخ هو الابن العاق للأدب، أو العكس، تبعا لانهجاسات الانتماء وذاتية التخصص...وبين التاريخ والأدب، هناك مشترك الألم والقسوة، والاستعطاف بالحكي من أجل الشفاء من جروح الماضي، ومن وشم ذاكرة العنف والعنف المضاد...

مناسبة هذا القول، صدور رواية "هديل سيدة حرة". يطل صاحب "سرير الأسرار" و"أرض المدافع" الروائي المغربي البشير الدامون، على القارئ برواية جديدة، غاية في الإبداع والامتاع، تنبش في مطمورات التاريخ الدفين...ومضة سردية تنير صفحة من صفحات التاريخ؛ تاريخ الصراع الديني بين "دار الكفر" و"دار الاسلام" كما تم رسمها من طرف اخباريي الماضي؛ صراع بين المغرب والممالك الايبرية، واقتتال ديني بايعاز من الكنيسة الكاتوليكية...

يحاول الدامون أن يستعيد شريط الذكريات، من خلال سيرة امرأة صنعت تاريخ المغرب بتاء التأنيث "السيدة الحرة". امرأة أدرجتها أدبيات التاريخ في منزلة الانسانة القوية والمجاهدة...حاكمة تطوان، المجاهدة والعاشقة التي توزع فؤادها بين ضفتين. انسانة رقيقة وجميلة، غارقة في علاقات العشق والغرام، مكتوية بهُيام الحب والفراق، مُرهفة الإحساس...تترنح بين لوعة الحب وذئبوية الحروب.

"هديل سيدة حرة" رواية سردية بنَفَس تاريخي، تقف عند سيرة أميرة استثنائية في التاريخ العربي والانساني، تحمَّلت شوائب الحكم، في زمن تكالبت فيه المصالح الأوروبين والعثمانين على البلاد، وتشابكت فيه الصراعات الداخلية على بلدها وأهلها، وكانت مُلزمة بمواجهة حرب فُرضت عليها، حتى لا تُقتل أو تسبى مع أهلها...وكانت كلما عقدت العزم للدفاع والجهاد إلا واعترضت طريقها أمها التي كانت مسيحية الديانة قبل أن تسلم وخاطبتها:
كيف تخرجين لقتال أبناء خالاتك وأخوالك؟.

رواية عن مسار الأميرة المتفرد، عن علاقاتها بالحرب والقراصنة والبحر والتجارة والعمران والإرث الأندلسي، عن تمردها وأفراحها، حبها وخيباتها، وعن حلم لقائها بحمامة بيضاء التي لم ترجع بعد، ونحن ملزمون بانتظارها...تشوفا من أجل سلام مفقود بين الضفتين.

حكاية عن أميرة شاهدة على عصر كان مسرحا لحروب شرسة ظالمة مقنعة بتلابيب الدين. قادت المعارك وانتصرت، إلا أنها ظلت أثناء رحلتها المريرة تعاني من "هزيمة ما بعد الانتصار".

رواية أميرة جديرة بحق بحمل اسم "السيدة الحرة"، تحكي بجمالية شاعرية قصة إنسانية، أو لنقل أمل حاكمة رأت نفسها حمامة تبحث عن سلام مفقود بين ثنايا حرب طاحنة، وحُلم بناء مجتمع راقي. السيدة الحرة التي ورتث حكاية جدتها، عندما كانت طفلة، حول تلك الحمامة القادمة، سترحل ولكن بعد أن ترمي بنفس الحلم إلى حفيدتها وتقول لها: "ثابري على الحلم فناموس الحياة وعدنا بأنها ستحضر".