بعد أقل من أسبوعين على خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء التي بفعلها استرجع المغرب أقاليمه الجنوبية، التي كانت تحت الاحتلال الإسباني سنة 1975... بدأ مضمون الخطاب، في بُعده الافريقي يتحسّس سُبُل النّفاذ إلى ملموسية الفعل... الملك كان في خِطابه قائدًا إفريقيا مُوَجِّها بمُبادرات تاريخية وفِعْلية، نحو نهجٍ تنْمَوي إفريقي يستثمر الواجهة الأطلسية لإفريقيا... في طنجة خلال مُنْتدى "أميديوس"، أبرز خُبَراء أفارقة الآفاق الواعدة بالعطاء للتوجيه الملكي... وفي سيّاق تدقيقها توصّلوا إلى الحاجة لأسطول بحْري مغربي، يتحرّك على الشاطئ الأطلسي لإفريقيا، وأوْضح بعضُهم أنّ المغرب، بخبرته وجاهزيته اللوجستيكية، هو الأقْدر على ذلك الإنْجاز... وزير النّقل المغربي السيد محمد بنعبد الجليل، سيقول بأن وزارته شرَعَت في الإعْداد لدراسات الجدْوَى، لإنشاء ذلك الأسطول... إنَّها الخُطوَة الثانية من "خُطوات الألف ميل"... بعد الخطوة الأولى، الجبَّارة أو العِمْلاقة لأنبوب الغاز، النَّاقل للغاز النيجيري عبر الأطلسي إلى المغرب، ومنه إلى أوروبا... إفريقيا تُحرِّك مُوَلِّداتها التنموية بطاقة أمواج المحيط الأطلسي... على إيقاع تصوُّرٍ ضَخّه الملك محمد السادس في المشروع التنموي الإفريقي... ذلك المشروع الّذي جعل الملك مشروعه التنموي الوطني المغربي متصلا به، عُضْوِيًا وفعليا...
في ذلك الخطاب، الوطني والإفريقي، للملك محمد السادس، أطْلق جلالتُه نِداءً لمُبادرة دولية اتجاه دُوَل السّاحل والصّحراء، تَفْتح فيها مسارا تنمويا، عبر فتح معْبَر لها إلى المحيط الأطلسي... ولا أحَد قبل الملك محمد السادس، نظر إلى تلك الدُول بآمال تنموية... هي اعتادت أن تعامل من قرابتها الجغرافية ومن دول "الرعاية" الاستعمارية بها، عبر مفاعيل التآمر لدوام أو انْتزاع النُّفوذ فيها، وكان المدخل العسكري وحده يقود إليها... وقد وقف جلالة الملك عند الخصاصات البنيوية في الروافع التنموية لتلك البلدان، والتي تحتاج إلى تعاون دولي، وسيكون العُبور إلى المحيط الأطلسي مُحرِّكه ومُسَوِّغَه... إنه مُخطَّط إفريقي خالص، الكلّ فيه رابح، مُفيد ومُسْتَفيد، والكلُّ فيه فاعل... وهو غير ذلك الممَرّ إلى المحيط الذي كان حُلُم الرئيس الجزائري، العقيد هُوَاري بومدين... ضدًّا على المغرب، ولغاية عزله عن محيطه الإفريقي... والذي كان وراء افْتعال مَسْعىً انْفصاليا في الصَّحراء المغربية، لإحداث دُوَيْلَة، مُلحقة بالقيادة الجزائرية ومَعْبَرٌ لها إلى المُحيط... ذلك "الحُلُم" الذي أشْعل هذا النِّزاع حول الصحراء المغربية، والذي يَتّجِه إلى اسْتكمال نصف قرن من شَلِّهِ للعلاقات الجزائرية - المغربية وتَمترُسه حاجزا في مسار مُستقبلها النَّافِع لها...
الملك محمد السادس وجّه عِدّة مَرّات نداءات أخَوِيّة، مُباشرة للرئيس الجزائري للْحوار وللتّفَاهُم وتحقيق التّعاوُن بين القِيَادَتيْن والبَلَدَيْن... في إحدى المرَّات، وفي خطابٍ مباشر، اقْتَرح جلالة الملك على الرّئيس الجزائري اخْتيار موضوع الحوار، توقيتُه، شكلُه ومُستوى المُشاركة فيه... هذه المرّة، كما في المرّات السّابقات واللاّحِقات، تجاهَلت قيادة الجزائر تلك النّداءات وقابَلتْها في المُمارسة بإشارات من الغُرُور والتَّعالي والصَّدّ، كما قد يفعل صِبْيان أو يُعربِد سَكران، وليس بما يليق من دَوْلة تمْتلك وسائل وعقلُ التفكُّر والتَّدَبُّر فيما تقود إليه بلادها من خسارات وما قد تَجنيه من مُكتسبات، في تعاوُنها مع المغرب...
المُقترح الملكي التّنموي لدُوَل السَّاحل والصحراء هو نوعٌ آخر ضِمْني، من نداءات لقيادة الجزائر للتوجُّه إلى المستقبل، بَدَلَ "العَسْكرة" في الماضي... ماضي الأحلام الهَيْمَنِية، ماضي الضَّغَائن، ماضي أوهام الرِّيّادة وماضي الاسْتِكَانَة إلى انْفراد تلك القيادة بالانْتفاع من خيرات الجزائر، ضِدًّا على حُقُوق شَعْبِها في ثَرواتها، وفي الكرامة، وفي الحريات، وفي التقدم...
أمام قيادة الجزائر اليومَ، مَجال الانْخِراط في مَسْعى فَتْحِ مَعْبَرٍ إلى المحيط الأطلسي، لكل دُوَل السّاحل والصّحراء وللجزائر... وتكون فيه تلك القيادة في مَوْقع الرّيادة في التعاون الدّوْلي المطلوبِ لذلك المسْعَى، وتكون فيه فاعلَةً في التَّعامُل مع المغرب انْتصارًا لمُبادَرَتِه، والتي هي من أهمّ المُسْتَفيدين مِنْها... تحْقيقا لحُلُم قيادتها، ولكن في سيّاق تعاوُنٍ مع المغرب، سِلميٌّ، عادلٌ، دائمٌ، مُتوافق عليه... والأهَمّ أخوي.
عن جريدة "العرب" الصادرة من لندن