تفاعلا مع الموقف المشترك الذي أعلنه (يورغن هابرماس) بمعية (راينر فورست)، و(كلاوس غونتر)، و(نيكول ديتلهوف)، أقدم اعتراضا نقديا عليه. وترجمتي له تندرج في باب تعريف القارئ بالعربية بالموقف الذي عبر عنه هابرماس وأتباعه.بالرغم من أنني أعتبر نفسي من المهتمين بالنظرية النقدية التي تعلمت منها أسس التفكير الفلسفي النقدي بحكم الأبحاث التي قدمت عنها لأزيد من عشرين سنة خاصة حول هابرماس وراينر فورست، فإنني لا أتفق مع هذا الموقف المتحيز لإسرائيل من فلاسفة يدعون الدفاع عن القيم الكونية، ويتعامون عن جرائم الإبادة التي يتعرض لها المدنيون في فلسطين محاولين إيجاد تبريرات عن وعي أو بدون وعي للمذبحة الجماعية في حق الأطفال والنساء والشيوخ حتى ولو كانوا في المستشفيات ومؤسسات الأمم المتحدة .
الترجمة الكاملة للنص :
(إن الوضع الحالي، الذي تسببت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس ورد فعل إسرائيل عليه، أفضى إلى سلسلة من المواقف الأخلاقية والسياسية والمظاهرات الاحتجاجية. ونعتقد أنه في خضم كل وجهات النظر المتعارضة التي تم الإعراب عنها، فإن هناك بعض المبادئ التي لا يجب أن تكون محل خلاف. وهي مبادئ تشكل أساسا لتضامن مُفكر فيه ومُتَعقل مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا.
إن المجزرة التي ارتكبتها حماس والمصحوبة بنيتها المعلنة لإبادة الحياة اليهودية بشكل عام، كانت سبباً في دفع إسرائيل إلى الإنتقام بهجوم مضاد. لكن كيفية تنفيذ هذا الهجوم المضاد، المبرر من حيث المبدأ، حظيت بمناقشة اتسمت بالكثير من الجدل. فمبادئ من قبيل علاقات التناسب [ضمنيا علاقات عدم التناسب بين حماس وإسرائيل] Verhältnismäßigkeit، وتجنب سقوط ضحايا من المدنيين، وشن حرب مصحوبة باحتمال إحلال السلام في المستقبل، ينبغي أن تكون مبادئ توجيهية. وعلى الرغم من كل القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تماما عندما تعزى نوايا الإبادة الجماعية إلى التصرفات الإسرائيلية.
وكيفما كان الحال، فإن تصرفات إسرائيل لا تبرر بأي حال من الأحوال ردود الفعل المعادية للسامية، وخاصة في ألمانيا. فأن يتعرض اليهود واليهوديات في ألمانيا مرة أخرى لتهديدات تهدد حياتهم وأجسادهم، وتجبرهم على الخوف من العنف الجسدي في الشوارع، فهذا أمر لا يُطاق وغير مقبول إطلاقا. فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الإتحادية، والتي تقوم على أساس الإعتراف باحترام الكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة مع استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقا في الحقبة النازية. ولهذا الإعتراف بهذه المسألة والإلتزام بها أمر أساسي في حياتنا السياسية المشتركة.
إن الحقوق الأساسية في الحرية، والسلامة الجسدية، وكذلك الحماية من التشهير العنصري هي حقوق غير قابلة للتجزئة وتسري على الجميع بالتساوي. وعليه يجب على جميع أولئك الذين يُقيمون في بلادنا والذين بثوا فيها المشاعر، والقناعات المعادية للسامية باعتماد شتى أنواع الذرائع، ويرون الآن فرصة ملائمة للتعبير عنها دون عائق، أن يلتزموا بتلك الحقوق ويمتثلون لها.
نيكول ديتلهوف، راينر فورست، كلاوس غونتر ويورغن هابرماس)
تعليقي على الموقف:
صعب جدا ترجمة موقف سياسي لفلاسفة من حجم هابرماس، وفورست، وغونتر في موضوع حساس للغاية. ولهذا حرصت أن أضع النص الألماني في مقابل النص المترجم. وبالرغم من ترجمته وتطويع لغته للعربية بقيت بعض الإيحاءات الضمنية التي لم يتم التعبير عنها بشكل مباشر. وهو ما سأبينه في تعليقي النقدي لفلاسفة نقدر قيمتهم العلمية في الخطاب الفلسفي المعاصر دون أن يمنعنا ذلك من مساجلتهم نقديا من موقع مخالف. تجدر الإشارة في البداية إلى أن فيلسوف الفضاء العمومي وضمير ألمانيا المعاص، كان من اللازم عليه أن يتدخل في الحدث كما تعود على ذلك مرارا. والكل يتذكر موقفه المشرف والنقدي للتدخل الأمريكي من الحرب على العراق التي خاضتها لوحدها في تحد سافر لقواعد ومبادئ القانون الدولي. لكن هذه المرة ظل هابرماس صامتا لمدة أزيد من شهر على المذبحة الجماعية ليطلع علينا بهذا الموقف المتحيز بمعية فلاسفة سبق لهم التعاون معه في تطوير النظرية النقدية وأقصد هنا فورست وغونتر اللذان اشتغلا معه في مشروع كتابه الشهير حول الفلسفة السياسية المعنون ب العيانية والصلاحية.
الفقرة الأولى:
يصر الموقف المعبر عنه في هذه الفقرة أن يظل مرتبطا فقط بالوضع الحالي دون الإشارة إلى الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني لعشرات السنين. ومن المعروف عن هابرماس والعديد من الفلاسفة الألمان أنهم يتفادون الإدلاء بآراء في الموضوع خوفا من تهمة معاداة السامية. لكن هذه المرة أصر هابرماس ومن معه على الإنطلاق من أخر حلقة في مسلسل القضية الفلسطينية للتعبير عن موقف متحيز دون استحضار للماضي ودون استحضار للداخل الإسرائيلي الذي تسيطر عليه حكومة يمينية متطرفة غير مرغوب فيها حتى في إسرائيل، وكلنا نتذكر الاحتجاجات ضدها قبل بدء الحرب. ويعبر الموقف في الفقرة نفسها عن مبادئ لا يجب أن تكون محل خلاف.هذه الفكرة في الحقيقة غريبة بالنظر إلى فلسفة التواصل وأخلاقيات المناقشة التي تجعل كل شيء محل نقاش وخلاف إلا بعد مناقشته وفحصه بطريقة عقلانية وأفقية تتيح لكل المعنيين بالأمر المشاركة فيه. كما أن صاحب الحق في التسويغ راينر فورست بدوره لا يخرج عن نفس السكة في الوقت الذي يصر على مبدأي التبادلية والعمومية كمبدأين ضروريين لتسويغ المعايير والمبادئ. بينما هنا يصران على أن مبادئ التضامن مع إسرئيل مفكر فيها ومُتعقلة وليست محل خلاف على الإطلاق. فأين هي الكونية؟ والحق الكوني في التسويغ كأفكار مؤسسة لعدالة نقدية عابرة لحدود الدولة الوطنية. Transnationale Gerechtigkeit
الفقرة الثانية:
تعلن هذه الفقرة بشكل صريح عن الموقف المباشر لهابرماس ومن معه في تبرير صريح يشرعن العنف الهمجي الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، بدعوى أن حماس هي من بدأت وأن إسرائيل هي في موقف الدفاع عن النفس حتى ولو أزهقت أرواح الآلاف من الأطفال. والأفظع في الموقف هو استبعاد ما تقوم به إسرائيل من دائرة جرائم الإبادة. ولهذا فأي حكم على الفعل بأنه يندرج في جرائم حرب ضد الإنسانية هو خارج عن دائرة الصواب حتى وإن كان هناك قلق على مصير الفلسطينيين. فأن يتصور المرء هابرماس ومن معه قضاة في المحكمة الجنائية الدولية معناه أن ما يحدث من جرائم موثقة بالصوت والصورة لا ترقى إلى كونها جرائم حرب. وبالتالي فحكمهم هو رفض الدعوة. هذه قمة سياسية الكيل بمكيالين المتأصلة في الثقافة الغربية. وللأسف لم تقتصر هذه السياسة عند السياسيين بل أعدت مثقفين كبار أمثال هابرماس. وهذا أمر غير مفهوم أن يصدر عن فلاسفة كبار من المفروض أن يحافظوا على قدر من النزاهة الفكرية بدل الاصطفاف وراء مواقف السياسيين.
الفقرة الثالثة:
يقيم الموقف علاقة بين ما يحدث في فلسطين وألمانيا والماضي الألماني. أذكر أن هابرماس في مقدمة الترجمة العربية لكتاب صدر بعنوان الخطاب السياسي للحداثة قال ما مفاده أن إسرائيل إنتاج للحداثة الغربية. وهذا الكلام فيه إشارة إلى الإضطهاد الذي تعرض له اليهود في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ولهذا لا يمكن فهم التفكير الفلسفي لهابرماس وبعض الفلاسفة الألمان دون استحضار تلك الأحداث. فهابرماس ومن معه وبحكم الإرث النازي يعتقدون أن اليهودي واليهودية لا يزالان مهددان في وجودهما. ومن ثم فحق الوجود لإسرئيل أمر ثابت في السياسة الألمانية. بل إن إسرائيل كما سبق لميركل أن عبرت عن ذلك هي سبب وجود Staaträson ألمانيا وليس العكس.
الفقرة الرابعة:
بناء على هذا العبء التاريخي فالموقف المعبرعنه في هذه الفقرة يريد أن يقول إن أي تضامن مع الفلسطينيين في ألمانيا يندرج في إطار معاداة السامية.وهذا هو نفسه موقف الحكومة الألمانية الذي عبر عنه رئيس الدولة اشتاينمايير، والمستشار أولاف شولتس، ووزيرة الخارجية بيربوك. وبناء عليه فكل صوت مناهض للحرب ومدافع عن حق الفلسطينيين في الوجود إلى جانب الإسرائيليين حتى ولو كان يهوديا فهو معاد للسامية. الغريب في هذا الموقف أن العبارة الألمانية أولئك الذين يقيمون في بلادنا diejenigen in unserem Land halten المقصود بها الأجانب بطريقة ضمنية وهم العرب، والمسلمون، ولا توجه تهمة تهديد وجود اليهود في ألمانيا لليمين المتطرف وللنازيين الجدد الذين يهددون اليهود أكثر من غيرهم. فهؤلاء المقيمون يمكن طردهم في أية لحظة من ألمانيا إذا ثبت أنهم يتعاطفون مع الفلسطينيين. وهذا موقف لوحت به الحكومة الألمانية مرارا في انتهاك صارخ لحقوق الجنسية وحق التعبير في الفضاء العمومي.
محمد الأشهب، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن زهر