رغم أن الدساتير المغربية المتعاقبة، انطلاقا من 1962، تُدخِل ضمن مجال القانون "الضمانات الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين"، فإن قانون الوظيفة العمومية الصادر سنة 1958، يُعَرِّف الموظف العمومي كما يلي: "يعد موظفا كل شخص يُعَيَّن في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة".
وانطلاقا من هذا التعريف، ظهرت مشاكل عديدة، نتيجة سوء التطبيق من جهة، وتضخم عدد الأنظمة الأساسية من جهة أخرى، واعتماد نظام التعاقد.
وسأعالج هنا المحاور الكبرى لعقلنة المنظومة التشريعية (القوانين) والتنظيمية (المراسيم) للوظيفة العمومية، في أفق اقتراح محاور إصلاح جذري لها، من خلال الإشارة إلى تراكم الإشكالات (المحور الأول)، وعلاقة الأصناف الخمسة للموظفين بالسلطات العامة الثلاثة (المحور الثاني)، ثم كيفية معالجة بعض الخصوصيات (المحور الثالث).
المحور الأول: تراكم الإشكالات
لقد أثار نظام التعاقد في الوظيفة العمومية، ردود فعل قوية جعلت الدولة مرة أخرى في مواجهة مُباشرة مع الشارع من خلال أشكال احتجاجية مُتنوعة، وهو أمر كان من الضروري الانتباه إليه منذ البداية، بل واعتباره فرصة لإصلاح شامل لنظام الوظيفة العمومية.
إن المغرب يعيش أوراشا إصلاحية مُتعددة ومُتوازية، لذلك كان ينبغي أن يكون موضوع الإصلاح الإداري في جوهرها، وبالضبط ما يتعلق بنظام الوظيفة العمومية.
وأعتقد أن هذا النظام يحتاج إلى إصلاح جذري فعلا، يقطع مع وجود نظام عام للوظيفة العمومية إلى جانب عشرات الأنظمة الأساسية الخاصة المشتركة بين الوزارات، والأنظمة الخصوصية، والأنظمة الأساسية الخاصة ببعض الإدارات العمومية، لأنه أثبت عجزه عن مُسايرة التطورات التي يعرفها المغرب. فمنذ سنة 1958 إلى الآن تغيرت معالم الإدارة المغربية، وكلما ظهرت إشكالية ما يتم اللجوء بشأنها إلى نظام أساسي خاص، ولم يعرف النظام العام إلا تعديلات جزئية لم تُغير من طبيعته، باستثناء ما يتعلق بنظام التعاقد.
لذا، فإن تحليل وضعية الإدارة المغربية و"أنواعها" وطريقة تأطير مواردها البشرية يتطلب استحضار ضرورة التوفر على منظومة تشريعية وتنظيمية متكاملة.
المحور الثاني: خمس أصناف موزعة على ثلاث سلطات
وبهذا الخصوص، اعتبر أنه يُمكن أن يتم تنظيم الوظيفة العمومية من خلال تنظيم مجالاتها. ويتطلب الأمر تنظيما عن طريق القواعد المشتركة من جهة، والخصوصيات من جهة أخرى.
ففي مجال القواعد المشتركة، لدينا بصفة عامة خمس قطاعات عمومية مدنية (5)، وهي كما يلي:
1- موظفو الإدارات المركزية ومصالحها الخارجية.
2- موظفو المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري.
3- موظفو الجماعات الترابية.
4- موظفو مجلسي البرلمان.
5- موظفو مرفق القضاء.
هذه المجالات موزعة على السلطات الثلاث الرئيسية: السلطة التنفيذية، السلطة التشريعية، السلطة القضائية، وهو ما يتطلب أخذ هذا المعطى بعين الاعتبار.
إن التمعن في هذه المعطيات، يُبرز لنا أن هناك موارد بشرية متنوعة تعمل كلها لصالح الدولة، وأن جوهر العمل الذي تقوم به مختلف بطبيعته (إجراء عملية جراحية، تقديم درس، تحرير شهادة إدارية). ولذا، فإن نظام الوظيفة العمومية ينبغي أن يكون بمثابة "الشريعة العامة"، أي يتضمن كل المقتضيات المشتركة بين مجموع العاملين لدى "الدولة"، في شكل نص قانوني يتضمن أساسا ما يتعلق بـ "الضمانات الأساسية للموظفين المدنيين والعسكريين" طبقا للفصل 71 من الدستور. ويتعلق الأمر خاصة بالضمانات التي ينبغي توفيرها للجميع، والمتمثلة في:
- الاستقرار والتدرج في المسار المهني.
- الضمانات التأديبية.
- الحق في التنقل من نظام لآخر عند تغيير القطاع.
- الحق في تغيير المنطقة الجغرافية وفق ضوابط المصلحة العامة.
- توحيد نظام التقاعد.
المحور الثالث: كيفية تأطير الخصوصيات
إن خصوصية بعض المجالات، ينبغي تنظيمها حسب تصوري، كما يلي:
فإضافة للوظيفة العسكرية التي لها قواعدها الخاصة.
فإن يتعلق بالسلطة القضائية، فإنه يتم اعتماد قانون تنظيمي خاص بالقضاة، تطبيقا للفصل 112من الدستور، وباعتبار أن القاضي، وهو يفصل في مختلف أنواع القضايا، في حاجة لضمانات وحقوق وواجبات إضافية.
وفيما يتعلق بالسلطة التشريعية، فإنه ينبغي اعتماد قانون خاص بالوظيفة العمومية البرلمانية، في شكل قانون واحد وموحد، دون تخصيص موظفي مجلس المستشارين بنص مستقل عن موظفي مجلس النواب، فبلادنا تتوفر على برلمان واحد بمجلسين، وليس على برلمانيْن منفصليْن.
أما بخصوص السلطة التنفيذية، وهي التي تتوفر على أكبر عدد من الموارد البشرية، فإنه يلزم الإشارة في البداية إلى مسألة مهمة، وهي أننا أمام ثلاثة أنواع من الأشخاص المعنوية العامة، وهي الدولة، الجماعات الترابية، والمؤسسات العمومية.
ولذا، ينبغي احترام الضوابط التالية:
- لا يُمكن أن تكون هناك تفاوتات بين موظفي هذه الأصناف الثلاثة، لأن الجميع يعمل ضمن نفس الدائرة.
- ضرورة اعتماد تأطير قانوني واحد وموحد لكل هذه الأصناف الثلاثة.
وهنا يكمن الخلل في النظام الحالي، لأنه لا يُمكن قبول تسمية البعض بـــ "موظفي الدولة" وتأطيرهم بقانون، واعتبار الآخرين "موظفين" لدى الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية وتخصيصهم بــــ "نظام أساسي". وحتى في حالة قبول هذا المبدأ، فإنه لا ينبغي استغلال الأنظمة الأساسية إلا في اتجاه التحفيز وليس التأديب أو التشديد. ولنلاحظ مثلا، أن نساء ورجال التعليم يخضعون لوحدهم لثلاثة أنواع من العقوبات: عقوبات القانون الجنائي، عقوبات قانون الوظيفة العمومية، وأضيفت لهم عقوبات في النظام الأساسي!!
إن هذه الأنظمة الأساسية تتطلب دراسة منفصلة للوقوف على علاقتها بنظام الوظيفة العمومية.
(يتبع في مقال آخر)
د. بن يونس المرزوقي/ أستاذ باحث بكلية الحقوق وجدة