عندما جاءت في الخطاب الملكي الأخير، بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة، إشارة صريحة إلى تحويل دفة التنمية صوب الشاطئ الأطلسي، الذي يبلغ طوله ثلاثة آلاف كلم ويزيد، من بينها ألف وسبعون كلم ممتدة على طول الساحل الأطلسي لأقاليمنا الجنوبية، كثرت التعاليق والتأويلات ولكنها تطرقت في معظمها للمشاريع الاستثمارية العملاقة، الوطنية والعربية الخليجية والأجنبية، وخاصة تلك التي تقيمها أو تشارك فيها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإسرائيل، وكذلك روسيا والصين وتركيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية... فضلا عن دول مجلس التعاون الشقيقة، بالخليج العربي، والتي تستأثر بقصب السبق من حيث حجم استثماراتها إلى غاية الساعة الراهنة...
وتطرق المتكلمون في هذا الشأن، أيضا، إلى الفكرة العبقرية، والمتمثلة في الدعوة إلى فتح المجال على مصراعيه لدول الساحل الإفريقي كي تجد لها منفذا على المحيط الأطلسي، فيما يشكّل دعوة ملكيةً موازيةً، في غاية الحكمة والتبصر، إلى التأسيس "لتجمع اقتصادي تنموي إفريقي غربي"، يكون في وسعه أن يتحول مع مرور الوقت، واكتساب التجارب والخبرات اللازمة والثقة الكافية، إلى قوة اقتراحية جهوية مطلة على دول الساحل الغربي لأوروبا، والأمريكات الثلاث، الشمالية والوسطى والجنوبية، ويشكل في الوقت ذاته تجمُّعا قادرا على الدفع صوب توحيد الخطاب الإفريقي في الحوار الحضاري والتنموي بين شمال وغرب إفريقيا من جهة، والشمال والغرب من الكرة الأرضية من جهة ثانية.
بمقابل هذه المعطيات الاقتصادية، الإنمائية، لم يتطرق إلا قليل من المتدخلين والمتكلمين إلى الجانب الأمني والعسكري، الذي سيمكّن هذا التجمّع الناشئ، بمجرد تشكّله، من القطع مع المشاكل الأمنية التي تعاني منها بلدان الساحل والصحراء، وخاصة ما تعلق منها باستفحال أنشطة التنظيمات الإرهابية بمختلف أصنافها، والتي وجدت دائما مَن يغذيها بالمال والسلاح والتكوين والتدريب، دونما حاجة إلى التسمية الصريحة للجهات المعنية بهذه الإشارة، والتي تأتي في طليعتها فرنسا الاستعمارية، التي لم تشبع بعد من امتصاصها للدم الإفريقي، والتي فطن العالم برمته إلى أن ثراءها الباذخ وأرصدتها من الذهب، والماس، واليورانيوم، وغيرها من القيم المالية الثابة والمنقولة، ليست إلا نتاجاً لنهبها لخيرات مستعمراتها السابقة في إفريقيا عامةً، وفي بلدان الساحل منها خاصة!!!
وإلى جانب فرنسا خادمتها ووصيفتها اللقيطة، الجزائر، التي لم تَجْنِ من هرولتها وراء أمها البيولوجية، فرنسا ذاتها، ومن انبطاحها على أعتاب الإليزي، سوى كراهية الأفارقة الأحرار، الذين بصموا على مرحلة ثورية من شأنها أن تجد في المشروع الذي بشّر به جلالة الملك ما ترنو إليه للخروج من تحت الظل الفرنسي الصقيعي، بدءاً بالقطع مع عملة "الفرنك سيفا"، التي صنعتها فرنسا منذ الحقبة الاستعمارية وألحقتها ببيت مالها لكي تُبقي قبضتها محكمةً على عنق الاقتصاد الإفريقي في مستعمراتها القديمة، ومرورا بتأمين مداراتها الطرقية والمائية ضد الجماعات الإرهابية، التي لا ريب أن المغرب ستكون له الكلمة الفصل في القضاء المبرم عليها، وانتهاءً بتنشيط اقتصاداتها باتجاه جيرانها الجدد والمرتقبين في المحيط الأطلسي، مع الاستفادة من الشراكات التي عقدها المغرب في الإطار الجيو-إستراتيجي ذاته، بل سيكون في وسعها من خلال الدعم المغربي ان تجد لها الكلمة المسموعة لدى كل شركاء المغرب الكبار، بما فيهم أمريكا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين والهند من جهة، ودول الخليج العربي من جهة ثانية، وعندئذ يمكن القول بكل أريحية لفرنسا ولقيطتها الجزائر، التي لا تفتأ تدور في فلكها: وداعاً وإلى غير رجعة!!!
شخصيا، وبكل تواضع، أعتقد أن هذا الواقع الجديد وغير المسبوق، الناجم عن هندسة جلالة الملك، الذي لن ننسى أنه من أهل الاختصاص والتخصص، وهو الذي اختار لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه موضوع العلاقات الاقتصادية مع دول شمال المتوسط، أقول إن هذا الواقع الجديد الذي أشرف ملك المغرب على هندسته وتقديمه في خطابه الأخير، لا شك أن له صدىً وازناً في التغيّرات الأخيرة التي كشفت عنها تحركات فرنسا الأخيرة في مجلس الأمن، والتي أبانت عن انقلاب مثير في نبرة الخطاب السياسي والدبلوماسي الفرنسي، ليس الداعم كما العادة للمقترح المغربي للحكم الذاتي فحسب، بل المتخطّي لهذا الخط إلى المطالبة الجادة والصارمة بالمرور رأساً، وفي أسرع وقت، إلى جعل هذا المقترح قيد التطبيق... الشيء الذي شكّل سلوكا فرنسيا سياسيا ودبلوماسيا غيرَ مسبوق!!!
وكم هو غريب، أن يأتي الخطاب الفرنسي داخل مجلس الأمن بهذا المحتوى الصادم لأعداء وحدتنا الترابية، والمشكّل لتقاطع غريب مع المواقف الفرنسية الأخرى داخل البرلمان الأوروبي، وعلى صفحات وشاشات وسائل الإعلام الفرنسية العمومية والخصوصية، التي كانت إلى أمس قريب تتهجم علينا ونحن في فترة حداد من جراء كارثة حوز مراكش المفجعة والأليمة!!!
ومَن يدري، فلعل فرنسا "دارت عقلها"، ولو بعد طول انتظار، وبدأت تكتشف كما لم تفعل أبداً من قبل، بأن ماضيها الإفريقي لن يكون له أدنى امتداد في آفاق المستقبل إلا مرورا بالمغرب، وبالقرار المغربي/الإفريقي/العربي، وهو الواقع الجديد الذي لن ينفعها الاتحاد الأوروبي في مواجهته أو الالتفاف عليه، بعد أن سقطت وتدنَّى وزنُها الفعلي والاعتباري داخل أسرتها الأوروبية، بفضل حماقات رئيس مراهق يمكن القول بكل موضوعية إنه أسوأ رئيس سكن قصر الإيليزي على الآطلاق!!!
نهايته، أن الخطاب الملكي، بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء؛ نشر على أرض صحاري إفريقيا الغربية بساطا في غاية الخُضرة طافحاً بالأمل في الخروح نهائيا من بين فكّي "دراكولا" الفرنسي، والشروع في كتابة تاريخ جديد وغير مسبوق القسمات رفقة شريك مغربي موثوق وقادر على رفع كل التحديات، وعلى رأسها تحدي القطع المبرَم مع التبعية السياسية والاقتصادية للاستعمار القديم وكل تلوّناته وحربائياته القديمة والجديدة!!!
محمد عزيز الوكيلي،إطار تربوي