إذا أسقطنا المغرب، لن نجد دولة تم بتر جزء من ترابها، ولما استعادته أفلحت في تحويله من أرض مقفرة إلى أرض تعج بالعمران وبالمرافق وبالحياة في ظرف زمني قصير.
فسواء تعلق الأمر بالصين أو روسيا أو ألمانيا أو الفيتنام، فإن تجربة هذه الدول في إعمار ترابها المسترجع، لا تشبه إطلاقا تجربة المغرب في إعمار الصحراء.
فالصين لما استرجعت مدينة هونغ كونغ، كانت هذه الأخيرة (وما زالت)، من بين أضخم المراكز المالية عالميا، وكانت هونغ كونغ تشهد بهاء وثراء. وألمانيا لما استرجعت جزءها الشرقي، استرجعت «دجاجة بكامونها»، لكون «ألمانيا الشرقية» كانت دولة قائمة الذات بمرافقها المهيكلة الكبرى وطرقاتها وجامعاتها ومختبراتها ومصانعها ومدنها وحدائقها. وروسيا لما استعادت «جزيرة القرم»، فإنها استعادت قطعة من «الجنة»، بالنظر إلى أن «جزيرة القرم» تشهد تخمة في المرافق والبنيات والتجهيزات. والفيتنام لما استرجعت أراضيها الجنوبية كان ذلك إيذانا بإقلاع الفيتنام ككل بحكم أن الأقاليم الفيتنامية المسترجعة كانت هي مضخة الثروة التي أهلت إقلاع الفيتنام.
وحده المغرب الذي استرجع صحرائه من الاستعمار الإسباني ووجد ترابه المسترجع أرضا جرداء. لا عمران ولا بنايات ولا طرق ولا مدن ولا منشآت، اللهم بضع براريك وبضع منشآت عسكرية تأوي جنود المستعمر الإسباني.
لكن ما حققه المغرب من إعمار بالأقاليم الجنوبية في ظرف قياسي وبإمكانياته الذاتية، التي لا يمكن مقارنتها بالناتج الداخلي الخام الضخم لألمانيا أو الصين أو روسيا، يستحق أن يكون درسا يقدم كتجربة في معاهد التهيئة والتعمير والتخطيط في دول العالم.
وما يعطي لهذا المقترح وجاهته أن الدول الأخرى التي استرجعت ترابها (الصين، ألمانيا، روسيا والفيتنام)، استكملت وحدتها الترابية في حالة سلم، بينما المغرب كان في حالة حرب، وكان يقوم بإعمار مدن الصحراء بالموازاة مع خوضه حربا قذرة فرضتها عليه الجزائر (وملحقتها البوليساريو). أي بالموازاة مع الجندي المغربي الذي كان يحمل البندقية دفاعا عن حدود المغرب، كان هناك مغربيا مدنيا يشق الطريق ويمد الأنابيب ويخرج أساسات البنيان من أرض الصحراء.
تجربة المغرب في إعمار الأقاليم الجنوبية، بقدر ما تغري وتمنح المرء الاعتزاز والفخر بكسب الرهان، بقدر ماتستوجب التمييز بين الحقب التي عرفها إعمار الصحراء، بحكم أن كل حقبة لها خصوصيتها.
في تقديري يمكن تقسيم مراحل إعمار الصحراء إلى خمس مراحل وهي:
المرحلة الأولى: تمتد من 1975 الى 1991.
وهي أصعب مرحلة، إذ بمجرد ما استعاد المغرب صحرائه حتى أعلنت الجزائر والبوليساريو الحرب على المغرب، مما استوجب من المغرب العمل على جبهتين: الجبهة العسكرية لصد هجمات العدو، والجبهة المدنية المتمثلة في البناء والإعمار.
ومن أهم ما ميز هذه المرحلة هو إكمال القوات المسلحة الملكية للجدار الأمني (2400 كلم) في ماي 1985، مما مكن من إعطاء دفعة قوية في مسلسل الإعمار بعد تأمين الصحراء بفضل هذا الجدار الأمني.
المرحله الثانية: تمتد من 1991 الى 2000.
وهي مرحلة غلب فيها تبني سياسات عمومية لتمكين مدن الصحراء من المقومات الدنيا ومعادلتها مع مدن الشمال Mise à niveau.
كما تميزت بانخراط قوي للنخب والساكنة المحلية في الانتخابات التي صاحبها أول وأكبر تقطيع ترابي بالمغرب (اقتراع 1992)، مما أفرز جماعات ومجالس محلية عديدة بالأقاليم الجنوبية تولى منتخبوها تدبير الشأن المحلي.
المرحلة الثالثة: تمتد من 2000 الى 2015 .
وهي مرحلة العهد الجديد الذي ضخ جرعة قوية في المونطاج المالي والمؤسساتي في البنيات المكلفة بالإعمار بالصحراء، عبر خلق وكالة لتنمية أقاليم الجنوب وتمكينها من غلاف مالي مهم ناهز سبعة ملايير درهم تم ضخه بأقاليم الصحراء، بالموازاة مع الأغلفة الأخرى المرصودة من طرف الوزارات والمكاتب العمومية والجماعات المحلية. كما تميزت هذه الفترة ببروز إرهاصات النموذج التنموي الجديد المتمثل في تكليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي بصياغة مسودة حول نموذج تنموي آخر للأقاليم الجنوبية (انظر الخطاب الملكي في عيد المسيرة لعام 2013).
المرحلة الرابعة: تمتد من 2015 الى 2023.
وهي المرحلة التي زادت فيها سرعة الإعمار عبر تبني جيل جديد من المشاريع المهيكلة للتراب الصحراوي ككل ووضع الأقاليم الجنوبية في صدارة ارتباط المغرب بعمقه الإفريقي. ويتجلى ذلك في اعتماد النموذج التنموي الجديد عام 2015 ومارافقه من توقيع اتفاقيات أمام الملك محمد السادس تهم ضخ 88 مليار درهم في الصحراء لتمويل المشاريع الكبرى (ميناء الداخلة الأطلسي، الطريق السريع تيزنيت الداخلة، المركب الصناعي فم الواد، مشاربع الطاقات المتجددة، تحليه مياه البحر، سقي 5000 هكتار،إلخ...).
المرحلة الخامسة: تبدأ من 6 نونبر 2023....
وهي المرحلة التي أسس لها المغرب، في شخص الملك محمد السادس، الذي خصص خطاب عيد المسيرة 6 نونبر 2023 كله لرسم كناش تحملات جديد في الإعمار والتنمية في الصحراء، عبر تحديد وظيفة أخرى للأقاليم الجنوبية، تتمثل في إدخال المغرب في رادار جيواستراتيجي يهم المحور الإفريقي الأمريكي وتحويل أقاليم الصحراء الى جسر يربط بين الواجهه الأطلسية لإفريقيا والقارة الأمريكية.
فاللهم كثر حسادنا!