فؤاد زويريق: جحيم الإحتلال يرصده فيلم "القدس في يوم آخر"

فؤاد زويريق: جحيم الإحتلال يرصده فيلم "القدس في يوم آخر" المخرج هاني أبو أسعد (يسارا)
هاني أبو أسعد من المخرجين الذين تسللوا إلى فضاء الصورة من قطاع آخر لا علاقة له بالسينما حيث درس هندسة الطيران، لكنه وفق بشكل جيد في تشكيل منحنياتها الصعبة وتوظيفها في خدمة قضيته، احتوى ربرتواره السينمائي على العديد من الأفلام نذكر منها "الفرخة الـ 14"، "الناصرة 2000"، "القدس في يوم آخر" 2002 ، "الجنة الآن" 2005، ''عمر'' 2013، ''يا طير الطاير '' 2015 ، ''The Mountain Between Us''  الجبل بيننا 2017،"صالون هدى" 2021.
فيلمه "القدس في يوم آخر" نقل إلينا بصدق صورا بليغة ومعبرة عن جحيم الاحتلال وما يرافقه من قمع للحريات العامة للفرد التي تنادي بها كل القوانين والأعراف الدولية. فيلم واكب تطور الخط الدرامي لأحداثه بشكل سلس وأعاننا على فهم الحقائق العامة التي تعيشها مدينة القدس من منظور فلسطيني، بدون خلخلة جوهر التجربة، و بدون إحالتها على الفلسفة الذاتية لصانعه، بل تجاوزها المخرج ودفعها إلى استنباط الفلسفة العامة للقضية ودمقرطتها، وعرضها أمام الرأي الإنساني حتى يزيل الوهم ويمنع سيطرته على فكر الآخر.
تنقل بنا هذا الفيلم عبر حواجز إسرائيلية أقيمت هنا وهناك، من خلال فتاة تحلم بالزواج من حبيبها قبل الساعة الرابعة بعد الظهر، وهكذا بدأت رحلة التنقيب والبحث عن الحبيب الضائع بين بيوت وأزقة القدس الشرقية، بشكل درامي غلبت عليه بعض المواقف الكوميدية. الطريق التي تسلكها الشخصية الرئيسية في الفيلم تحمل بين طياتها الكثير من المفاجآت، تلك التي تربك مخيلة المُشاهد في آخر لحظة، ويصبح معها تصور النتيجة في حد ذاته متعة ترافق متعة قصة الفيلم، هذه الأخيرة التي بنيت بناء صلبا ببلاغة صورها التعبيرية، وحبكتها السردية، ورسالتها المبطنة التي تحملها بين سطورها، كَوَّنت مع الصورة السينمائية أنموذجا جميلا للترابط الملتزم بين الصورة والكلمة.
هي إذا لغة خام تدخل في صياغة الواقع بتجلياته المتنوعة وتقوم بترصيص الوحدات السياسية والوطنية والفكرية ... انطلاقا من حدث واحد فقط، هذا الحدث الذي اتخذ شكل القضية الفلسطينية في مسارها التقليدي، إذ كلما تعرضت الفتاة لحاجز أو عرقلة ما تُؤخر زواجها، ننساق آليا الى القضية الفلسطينية وما تعانيه بدورها من عراقيل تُؤخر حلها، إلا أن عقدة الفيلم تحل في النهاية ونقف شهودا على زواج طال انتظاره.. تتزوج الفتاة بعد جهد جهيد وبطريقة غريبة واستثنائية على حاجز إسرائيلي و على مرأى من جنوده، وربما في ذلك أيضا إحالة على القضية الفلسطينية التي ستحل لا محالة طال الزمن أو قصر، فإذا كان هذا التحليل صائبا - رغم قصة الفيلم المفتوحة على كل الاحتمالات والتأويلات - فسنكون أمام ملامح ثورية على شَكل فتاة، تناضل من أجل تحقيق هدفها وتقاوم من أجل رسالتها رغم معارضة أبيها الشرعي لزواجها ووقوفه ضد رغبتها، بل أكثر من ذلك حاول مفاوضتها بالتخلي عن الزواج من المخرج المسرحي المعدم و منَحها قائمة طويلة ومغرية لعرسان آخرين يرغبون في الارتباط بها، لكنها ثارت وصممت على الزواج من ذلك الشخص، كما أن هذه الشخصية تقمصت دور الشاهد، الشاهد على مأساة سكان القدس من مضايقات في الحواجز وهدم للمنازل، وسقوط للشهداء برصاص الاحتلال وغيرها من المآسي التي نشاهدها يوميا عبر الأخبار.
الجميل في الفيلم هو توظيف عامل التقابل بين الحياة العادية المعاشة في الظروف الطبيعية، وبين الحياة المؤلمة المعاشة في الظروف الاستثنائية، إذ حاول المخرج خلق ثنائية متضادة منهما، وإلحاقها بسيرورة الأحداث حتى تعطي للمتلقي خارج فلسطين الإحساس بالأمان الذي يعيشه، وفي نفس الوقت الإحساس بالخوف الذي يعيشه الآخر بفلسطين، عبر رؤية إبداعية متكاملة مبنية على ثقافة النضال الفكري، الذي تسعى في جوهرها إلى تمرير أنساقها الإدراكية إلى المشاهد، دون تغييب البناء الهرمي لسلطة الصورة.
للفيلم عنوانان "القدس في يوم آخر" و"عرس رنا" هذا الأخير الذي لا يحمل بين طياته تلك الرمزية والحمولة النضالية التي يحملها الأول، فالقدس في يوم آخر عنوان مليء بتراكمات صوتية تحيلك مباشرة إلى تاريخ ممتد ومليء بملاحم، وأساطير، وحروب، وبطولات... وتحيلك أيضا إلى مدينة مقدسة تحتضن جميع الديانات، كما تحيلك إلى الروتين اليومي الذي يعيشه سكان القدس تحت القمع الإسرائيلي، إذا هو عنوان أقدر على توصيل الرسالة وشرح طلاسمها قبل فتحها، وهكذا نرى أنه يحمل داخله ذاكرة الأمة، وضميرها، وحاضرها ... أما "عرس رنا" فأجده حقيقة عنوانا عاديا لا يرقى إلى رؤية الفيلم وأفكاره وأحداثه.
لا شك أن المخرج هاني أبو أسعد وفق في استجلاء العلاقة المتينة التي تربط السينما بالقضايا المصيرية للشعوب، واستخدمها كأداة لوخز الضمير الإنساني، من خلال مشاهد صادقة أقرب إلى التسجيلية في نقلها للواقع اليومي للفلسطينيين بأحياء القدس الشرقية. هي مشاهد تتركب لتنسج وثيقة حية للممارسات الإسرائيلية، والمعاناة الفلسطينية، خصوصا أنها اتخذت من الديكور الخارجي والحي محورها الرئيسي، إذ كانت جل المشاهد تقريبا خارجية، وحتى بين الجدران وخصوصا ببيت صديقة رنا حيث كانت الكاميرا متجهة صوب الخارج ناقلة لنا صور الجرافة وهي تعمل على هدم بعض المنازل والأجواء المرافقة لهذا الحدث.
لم يطوق المخرج كاميرا الفيلم، كما لم يفرض عليها قيودا تعيق حركتها وتكبلها بزوايا معينة، بل تركها تنطلق حرة طليقة تحاور المشاهد بلغة يفهمها ويتفاعل معها، لغة سلسة تمنحه الإحساس بالوعي الإنساني اتجاه ما يشاهده أو بالأحرى ما يعيشه، فالواقع التركيبي لجملة من المحاور الإستراتيجية التي احتواها الفيلم، كونت لدينا بؤرة من التوتر الداخلي ناقمين بذلك على الوضع اللإنساني الذي يعيشه الفلسطينيون داخل أرضهم.