مسافر زاده "دفتر العابر".. ياسين عدنان يشيد ملحمة بإيقاع شفيف وتداخل نصي باذخ

مسافر زاده "دفتر العابر".. ياسين عدنان يشيد ملحمة بإيقاع شفيف وتداخل نصي باذخ عبد العزيز كوكاس رفقة الشاعر ياسين عدنان

بعض الكتب بوصلة، خرائط مفتوحة للسفر.. تؤنسك، تقلقك، تهوسك، (يربط اللغويون الهَوْس بالطَّوَفان بالليل والطلب بِجُرْأَة، وهَوِسَ الناس هَوَساً وقعوا في اختلاط وفساد والهَوِيس النظر والفكر والهَوْس الأَكل الشديد).. بعض الكتب لا تصلح أن تقرأ إلا في الوضعيات التي كتبت فيها أو عنها، قراءة بالصحبة، وأجملها من تكون لك خير جليس في مطارات الترانزيت وفي بلدان العبور..

في السماوات وحدها لا مجال للسوشيال ميديا، حمدا لله، وجدت نفسي برفقة ديوان صديق عزيز، لا أعرف كيف أني انقدت لذات مجالات العبور التي مر منها المبدع ياسين عدنان، في "دفتر العابر" من باريس شارل دوغول إلى بروكسيل، فألمانيا، فالدانمارك والسويد، ثم عودة إلى إسبانيا، بعد انعطافة خاصة بي نحو أوربا الشرقية رفقة مرايا عمياء "الصديق بأثر رجعي وأحد أقرباء الحبر السُّري" كما سماني يوما المبدع سعد سرحان الذي تغويه مفاتن لغة يسعى دوما لكشف ثرائها وما تمنحه من شعرية غير منهكة، وتلك حكاية أخرى.. صدفة، وجدتني كما لو أني كنت أقتفي رحلة ياسين عدنان بعد عقد من الزمان على نشر عمله الشعري المتميز "دفتر العابر"، ديوان يضم الرحلة والسيرة وملحمة حديثة تعلمنا حسن الإقامة في الأمكنة حتى تلك الثقيلة على القلب، أو الموشومة بعذابات الذاكرة أو كثافة التاريخ أو قسوة الطبيعة... وبرغم غربتك تحسسك هذه القراءة بمثل ما أحس به هاملت شكسبير، حين قال: "ربما يتحدد مكاني داخل قشرة جوز ولكني أعد نفسي ملكا بلا حدود".

بعض الدواوين لها مكر خاص، تقودك بيسر ولا تنقاد لك إلا بعد عسر، بعد أن تكون أهلا لمقام السفر، مؤهلا لأن تقرأها كما تعشق في كامل يقظتك، لا أن تقودك إلى نوم الكسالى، هذا ما حدث لي بالضبط مع ديوان "دفتر العابر" الذي أعتبره عملا يشي باكتمال نضج شعري باذخ، بل فتحا جديدا في شعرنا العربي، يجمع بين التأمل في الذات والآخر، والانشغال بالأسئلة الوجودية المشوبة بالكثير من التوتر الفكري، وإيقاع لا يفرط في كينونته الشعرية كميسم مميز للقصيدة مذ كانت، وجمعه بين الشعري والسير ذاتي والنثر الموقع بابتهاج لا توصف متعة سلاسته، والرحلة الملحمية لفاتح من الشرق لهذا الغرب الحابل بكل التناقضات من الرفاه الثقافي والديمقراطي إلى البرودة والبذخ في كل شيء، في التبضع، في الإحساس بالتفوق وعقدة الآخر البربري...

في الرحلة لا يؤنس غربتك غير قدرة لسانك على الالتواء والتمرن الجيد على الانتقال بين فخاخ عديدة أولها سوء الفهم اللغوي وأعمقها سوء الفهم الثقافي كان استشراقا أو استغرابا، مع قلة زادك وكثرة حيرتك، فالهدف الحق هو الدرب لا ما يفضي إليه، ومتعة السفر ليس الوصول للمكان المراد، بل التيه والمغامرة ووقع المفاجآت المصاحبة لهكذا رحلة، لذلك لم أحس بوحدة هذه الانتقالات، من فضاء إلى فضاء مغاير، وجدت في صحبة "دفتر العابر" خريطة، بوصلة، أنقدت لذات الدروب بصحو غير مثير للضجر، لم يكن غرامي بالأمكنة والترب كما يقول صاحب ترجمان الأشواق، الذي يستحضره ياسين عدنان في بنية مسار "دفتر العابر" كما في تفاعله النصي مع ابن عربي، "يا لغرامي بالبُرَيق ولمحه".

وأنا الذي أكره مطارات العبور، لأنني أعتبرها تؤدي إلى كل الوجهات إلا إلى تلك التي تريد، إلا بعد رحلة من تعب، سعدت برفقة رحلة ملحمية، فلا أجمل من ديوان يؤنسك ويهوسك في مطارات غريبة عنك، بين أناس يرطنون بكل اللغات إلا اللغة الأحب إلى قلبك.