اسطنبول.. جنة القطط والكلاب الضالة!

اسطنبول.. جنة القطط والكلاب الضالة! القضاء التركي يحسم الجدل وينصب القطط والكلاب الضالة أمراء بشوارع إسطنبول
إذا كان البقر مقدسا لدى الهندوسيين، والنمر مقدسا لدى الصينيين، والفيل مقدسا لدى التايلانديين، والثور مقدسا لدى الإسبان، والنسر مقدسا لدى اليونانيين، يمكن القول إن القطط والكلاب الضالة "مقدسة" لدى الأتراك.
فإسطنبول (وهي مجرد مثال)، ليست مشهورة بمآثرها التاريخية أوبمساجدها العتيقة أو بكنائسها القديمة أو بمعالمها السياحية الفاتنة فقط، بل تشتهر أيضا بكونها "جنة القطط والكلاب الضالة". فأينما وليت وجهك في إسطنبول تتراءى لك قطة أو كلب ممدد بعتبة مقهى أو ببهو متجر، أو منهمكا في تناول طعام داخل صحن بشارع، أو واقفا عند إشارة المرور بجانب مستعملي الطريق ليعبر الشارع!
الكلاب والقطط الضالة بإسطنبول ليس لها مالك، ولكنها تتملك الشارع والفضاء العام، ويتعايش أغلب الأتراك مع هذه الحيوانات بألفة وعناية واهتمام، لدرجة أن التجار وأصحاب المطاعم والمارة يتسابقون في من يقدم الأكل أو الماء لهذه القطط والكلاب الضالة، لدرجة أن الصحون المملوءة بأكل الحيوانات أو الصحون المملوءة بالماء، أضحت جزءا من الأثاث الحضري الذي يؤثث شوارع وأزقة إسطنبول. والويل لمن يعتدي على قط أو كلب ضال. ومن تجرأ واعتدى على حيوان أليف يعاقب بالسجن سنتين وغرامة قدرها 50 ألف ليرة (2700 دولار أمريكي).
علاقة الأتراك بالكلاب علاقة مطبوعة بالذنب والعار. فالأتراك تناسوا فظاعات الديكتاتورية العسكرية التي سودت حياة أجدادهم وآبائهم، لكنهم لم يقووا على نسيان جريمة قتل 80.000 كلب في عام 1910.
ففي هذه السنة، وبعد أن شاخت الأمبراطورية العثمانية وأحست بانزياح امبراطوريتها على يد القوى الغربية، أراد عمدة اسطنبول آنذاك (Sophi Bey)، خلخلة طريقة تدبير المدينة تحت تأثير الأتراك القادمين من جامعات ومعاهد الغرب، وقرر تطهير المدينة من الكلاب الضالة التي كانت منتشرة بشكل رهيب بالمدينة. وتم جمع 80.000 ألف كلب وأمر العمدة بنقلها في سفن إلى جزيرة هايرسيزادا HAYIRSIZADA، وهي من الجزر المشؤومة ببحر مرمرة بتركيا (تبعد بحوالي11 كلم عن إسطنبول). هذه الجزيرة عبارة عن صخور جرداء، ليس فيها ماء ولا نباتا. فمات 80.000 كلب من شدة العطش والجوع.
لعنة هذه "المجزرة"، ظلت تطارد الأتراك إلى اليوم، لدرجة أن السلطات التركية نصبت بالجزيرة تذكارا للكلاب المقتولة، كما تحرص 340 جمعية بإسطنبول تعنى بالرفق بالحيوانات، على زيارة "الجزيرة المشؤومة" كل عام لإحياء ذكرى "المجزرة".
من هنا الحرص في هذه المدينة (سلطات ومجتمع مدني ومواطنون) على الاهتمام بالكلاب والقطط والعناية بها، مما جعل عدد الكلاب والقطط يتضاعف في إسطنبول بشكل مهول. وللمزاوجة بين الرفق بها والحيلولة دون تناسلها إلى ما لانهاية، قام المشرع التركي بسن قانون عام 2004 يلزم البلديات بكامل البلاد بضرورة الاهتمام بالكلاب الضالة وبالقطط الضالة (رعاية وتطبيبا وأكلا وشربا وتعقيما وإخصاء).
استنادا إلى هذا القانون، قامت بلدية إسطنبول (15 مليون نسمة)، بتوظيف أطباء بياطرة وخصصت 420 موظفا من تقنيي البلدية، جعلت مهمتهم الواحدة والوحيدة هي الاعتناء بالكلاب والقطط الضالة وإطعامها وترقيمها وتطبيبها وعلاجها. وتم تقسيم هؤلاء الموظفين على الدوائر الإدارية لإسطنبول (تضم المدينة 39 دائرة). كما تم تجهيز هذه الفرق بالسيارات وبعيادات بيطرية متنقلة، وتم وضع رقم هاتف خاص. وبمجرد ما يتصل مواطن أو مواطنة ببلدية إسطنبول ليخبر عن وجود كلب ضال او قط ضال مريض أو محتاج لرعاية طبية حتى يسرع التقنيون الموجودون بالدائرة الترابية المعنية للتدخل والتكفل بالكلب او القط. فإن كانت وضعية الحيوان لا تكتسي خطورة يتم التدخل في الحين و"يطلق سراح" الكلب أو القط ليهيم في الشارع بحثا عن من يربت على كتفه أو من يطعمه من "بقايا الطعام" بساحة عمومية، وإن كانت وضعية الكلب أو القط تتطلب عناية أكثر يتم نقل الحيوان الضال إلى مركز للعناية، إذ جهزت البلدية ستة مراكز بيطرية للقطط والكلاب الضالة في إسطنبول.
ووفق إحصاءات بلدية إسطنبول تم عام 2019 التكفل بعلاج 73.608 كلب ضال، مقابل 2470 كلب في عام 2004، تاريخ دخول قانون رعاية الحيوانات حيز التنفيذ. ووفق هذه السياسة العمومية لم تسجل أي حالة داء للسعار بإسطنبول منذ عام 2016، رغم وجود 130.000 كلب ضال بإسطنبول و165.000 قط بشوارع المدينة (أي ما يمثل كلب/قط ضال لكل 44 مواطن بإسطنبول)، علما أن هذه الحيوانات تتوفر على شريحة إلكترونية متبثة بالأذن تسمح للبلدية بتتبع مسار وتنقل الكلب الضال بشوارع المدينة.
ورغم تكتم بلدية إسطنبول عن الميزانية السنوية المرصودة لمرفق الكلاب والقطط الضالة، فإن وزير الفلاحة السابق Bekir Pakdemrli، سبق وكشف لصحف تركية أن وزارته لوحدها خصصت اعتمادا قدره 6.000.000 دولار أمريكي لمساعدة البلديات على التكفل بالحيوانات الضالة في الفترة بين 2009 و2018، أي ما يوازي 600 ألف دولار كل عام، معظمه كان يوجه لبلدية إسطنبول.
لكن الوضع ليس ورديا، بالنظر لوجود فئة داخل المجتمع التركي ترفض التعايش مع الكلاب والقطط الضالة، لدرجة أن هذا التيار تمرد على قانون 2004، وأنجز تطبيقا كان يسمى havrita، عممه في العالم الافتراضي، لضبط أي كلب ضال لحث الناس على قتله، إلا أن القضاء التركي تدخل عام 2022، وقضى بإغلاق الولوج لهذا التطبيق.
وبهذا الحكم نصب القضاء التركي القطط والكلاب الضالة أمراء بالشارع العام باسطنبول بدون منازع!
 
ملحوظة:
الصورة الأولى (مع القطط) بمقهى zeruj بحي Zeytinburnu
الصورة الثانية (مع الكلب) بشارع Divanyolu بحي Sulatanahmet