الناقد رواد العوام يقرأ كتاب "الغريب" للدكتور خلدون النبواني

الناقد رواد العوام يقرأ كتاب "الغريب" للدكتور خلدون النبواني الروائي والناقد السوري، رواد العوام وكتاب " الغريب"

لا شك أنك عندما تكون أمام عمل مهم يكون مقياسك الوحيد مدى تأثير هذا العمل بك ومدى قدرته على تغيير أو تعزيز مفاهيمك التي طرحها هذا الكتاب، وأمام الغريب نحن بالضبط أمام كتاب مشاكس، مخاتل ، تغلقه لتنام فتجده يتسلل بأسئلته إلى وسادتك.

يطرح الغريب أسئلته ولا يطلب منك الجواب، فهذا كتاب يطبخك على نار هادئة، يضعك في خانة المتشكك والمتسائل ويشاركك مفاهيمه التي يعالجه بمنطق السارد العارف والعالم بالإجابة. والكتاب هو مجموعةٌ من النصوص المنشورة، والحوارات التي أجرِيَتْ مع الدكتور خلدون النبواني في السنواتِ العشر الأخيرةِ، وقد جمعَها المفكِّر النبواني بتصرُّفٍ أحياناً، وهي تتركّزُ حول إشكاليّاتٍ تتعلّق بتاريخ الفلسفة ووضعها الحالي في أوروبا والعالم العربيّ، وعوامل ازدهارها وتراجعها، وتناقش وجود فلسفة عربية جديرة بهذا الاسم، وتحلّل فلسفيّاً معظم القضايا السياسية والأحداث التي شهدها العالم العربي من ثورات وحروب وسقوط أنظمة، كما تناقش عودة الفاشيات إلى أوروبا مع أحزاب اليمين المتطرّف المنغلقة على هويّتها القوميّة والمعادية للمهاجرين، وإشكاليّات اللجوء والمنفى والاغتراب.

فما هو الغريب؟

يطرح الكاتب فكرة التحرّر من المفهوم الكلاسيكي للوطن؛ كي لا يكون سجناً مفاهيميّاً كما ورِثناه، ويُجري مقارنة سريعة للدلالة اللغويّة لمفهوم الوطن بين العربيّة وبعض اللغات الأخرى، فيخلص إلى أنّ هذا المفهوم في العربيّة لا يشير إلى علاقة ثابتة بين الإنسان والمكان، ولا يرتبط بمسقط الرأس، وإنما قابل للتغيير والانتقال، ثمّ يتحدّث عن تطوّر مفهوم الوطن في الغرب عند كانط ومارك وهيجل، وقد أعيد تكبيل مفهوم الوطن وخنقه عبر شعارات كبرى مع نشوء الفاشيَات الغربيّة (النازيّة والستالينيّة) للسيطرة على عقول الشعوب من خلال تقديس هذا المفهوم خدمة لحروب الهويّات والمصالح، وتمّ اختزال الوطن في الدولة ثمّ الحزب الحاكم ثمّ رئيس الدولة الذي صار هو الوطن. وهنا تستنج أن الكاتب يهدف إلى خلخلة المفهوم المقدَّس للوطن وتفكيكه، من أجل قلب قيمة الوطن لجعله كما كان عند العرب قديماً ظلَّ المسافرِ ورفيقَ دربِه، يرتبط بالإنسان ولا يربطه. فالمواطن هو أصل الوطن وليس العكس، الأول يخلق الثاني وليس العكس، وقيمةُ الإنسان فوق قيمة الوطن، وليس كما تنظر الفاشيّات وتقدّمه كما قدّمَه القاموس المحيط بوصفه مربطَ الغنم والبقر.

من هو الغريب؟

يغيب الجذر القاموسيَ المعجميّ لكلمة (الهويّة) في العربيّة، وهي ليست أصيلة في العربيّة وإنما هي ترجمة لمبدأ الهويّة الأرسطيّ الذي يقوم على تطابق الشيء مع ذاته (الشيء هو ذاته)، ثم يعرِض الكاتب مفهوم الهويّة في اللغتين الفرنسية والإنجليزيّة. ويخلص النبواني إلى أنّ مفهوم الهويّة متشظٍّ منذ الأصل، ويُحيل إلى آخَر غير محدّد بدوره، ولا جوهرَ واحد له ولا ماهيّة مطلقة، فلا هويّة للهويّة. والهويّة متشظيّة منذ الأصل الأرسطيّ، والأنا هي الآخرون الذين يُحيلون بدورهم إلى آخرين، يُحيلون بدورهم إلى آخرين ... وهكذا.

أنا تتضمّن أنتَ وهو ونحن وهم، لكن بعيداً عن فكرة الحلول الصوفيّة أو وحدة الوجود، وإنما تشظية للأنا المتكثّفة حولَ نواتها كما يُتوهّم، وتفكيك للهويّة السياسيّة المتمركزة حول نواتها المصطنعة، وتقضي على الآخر في حرب هويّات قاتلة.

حكاية منفيّ دون مَنفى!

وفقاً للفيلسوف روسو، فإنّ الملكيّة الخاصّة هي أصلُ وسببُ المنفى، وتحويل الأرض إلى ملكية خاصة هو أصل اللامساواة بين الناس. يناقش النبواني إشكاليّة المنفى من خلال النقاشات الفلسفيّة الكلاسيكية، مستعرضاً آراء الفلاسفة روسو وهوبز وكانط، مشيراً إلى أنّ كانط لا يريد إلغاء هذه الملكية نهائياً وإنما إعادة بنائها على أساس أخلاقي قانوني معياريّ.

النبواني غريباً!

يتحدّث النبواني عن معاناته النفسية في سورية قبل الهجرة، ثمّ تجربته الشخصية في فرنسا وإحساسه العميق بالغربة بحكم التصنيف، مشيراً إلى أنّ المنفى هو نقطة الانطلاق، بينما اللجوء هو نقطة الوصول إنْ كان هناك وصول. ويرى أنّه لا يمكن أن نكون لاجئين دون أن نكون منفيّين، في حين يمكن أن نكون منفيّين دون أن نكون لاجئين قائلاً: إنّ منفاك يسكنك أيها الغريب، إنّ الغريب هو اسمك الشخصيّ الذي تُعرَف به.

ثم يعرج النبواني لحوارات فلسفية سياسية من خلال حوار يُجريه حاتم زكي ويطرح جملة من الأسئلة ذات الصلة بالموضوع ويخلص الحوار إلى أن الفلسفة المعاصرة هي فلسفة اللغة بامتياز، وقد استنفدت نفسها في اللغة، واستنفدت اللغة فلسفياً، ولا بدّ للفلسفة من فكّ ارتهانها بفلسفة اللغة. كما يدعو إلى ضرورة ولادة فلسفة جديدة مستقلة ومتحرّرة من قفص الهويّة الأوروبية. كما ينوه إلى غياب الأسماء الكبيرة في الفلسفة، واحتكار ألمانيا وفرنسا للفلسفة الغربية. ويشير إلى أن الفلسفة قد تحيا طويلاً وتكون معافاة حتى دون فيلسوف كبير واحد، وذلك بفضل المدارس الفلسفية، وحضور الفلسفة في منتديات خاصة، ومأسسة الفلسفة وتحصُّنها داخل الجامعة. ويطرح فكرة أن الواقع الافتراضي يستفزّ الفلسفة اليوم، ويفتح إمكانية البحث في آفاق جديدة ولغة جديدة، وبخاصة في عالم الوعي والوعي الموازي. ثم يعرج على تفكيك الهويّات من خلال حوار مع ياسين كرام الذي يطرح على المفكر النبواني أسئلة عديدة حول ما يدعو إليه من تفكيك مظاهر المركزية والأحاديّة والصنميّة، وتجلّياتها السياسية مثل تفكيك خطاب الأنا، وتفكيك فكرة الإسلام النقيّ والخالص، وتفكيك فكرة القوميّة، وتفكيك الأنظمة الديكتاتوريّة وتعريتها.

ويعرج الحوار عل القضايا السياسية حيث يرى النبواني أن الفكر ظلَّ مربوطاً بوتد السياسة يدور حوله، وهذا ما سجن الفكر العربيّ وكبّله ومنعه من التحرّر ومع بداية ثورة تونس، عاد الأمل بتغيير عربيّ يقوده الشعب، وهو ما لم يحصل قبلها سابقاً. ويضيف النبواني "لكنني شعرتُ بعد انخراطي في السياسة أنّ خياري كان خاطئاً، وأنّني أكاد أغرق في وحل السياسة؛ فالعمل السياسي ليس مهنتي ولا طموحي، وهو ما يعطّلني عن الإنجاز الفكريّ الذي نذرتُ نفسي له" ويحلل النبواني ما حصل في الربيع العربيّ ويراه أنه (لم يكن ثورة تقودها النخب؛ فالنخب كانت مختفية، وإنما انفجار شعبيّ هائل غير موجّه، وهنا مكمن خطورته وقوّته في آن معاً. وفيما يخص الوضع السياسي العربي العام يقول: (يتم تعطيل نتائج الديمقراطية في كلّ مرّة تُمارَس فيها انتخابات ديمقراطيّة عندنا، كما حدث في الجزائر 1991، وفلسطين 2006، ومصر 2011، وقدّ أدّى رفض نتائج الديمقراطيّة إلى العنف بل إلى الإرهاب. وبخصوص الديمقراطية يرى أنَّ تأسيس الديمقراطيّة تحتاج إلى مفارقة جديدة، وهي فرض الديمقراطية بالقوّة، وأن دولة قويّة بعيدة النظر، تغلّب المصلحة العامّة على مصالحها الضيّقة، وتعمل على قوننة الديمقراطيّة والدول البوليسيّة لم تقم فقط بالقضاء على النخب بوصفها حوامل لأفكار التغيير والتقدّم والمدنيّة، وإنما قامت بالاستيلاء على الوعي وخنق المجتمع المدنيّ وأدلجة الشعوب وتخويفها.

-أن هناك حاجة إلى يسار عالميّ جديد من خلال حوار أجراه الأستاذ عارف حمزة معهُ، النبواني أنه لم يعرف التاريخ مجتمعات تسود فيها القوانين والعدالة الاجتماعيّة والحقوق كما هو الحال في مجتمعات الغرب الحديث. وأن النضال ضدّ توحُّش الرأسماليّة يبدو لي اليوم نضالاً لا غنى عنه، من أجل حرّيّة حقيقي أمام حرّيّات زائفة نتوهّم امتلاكها، لكنّ تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى يسار جديد، وهذه إحدى أكثر المهمّات إلحاحاً التي على الفلسفة الاضطلاع بها الآن وهنا. وأنه لا بدّ لعرب اليوم من أن يتخلّصوا نهائيّاً من أسطورة الغزو الثقافي، وتهديد ما يتوهّمون كونَه الهويّة العربيّة أو الإسلاميّة الصافية.
-في حوار أجراه معه غسان ناصر أن التحاصُص الطائفيّ أخطر من الدكتاتوريّة والاستبداد على الديمقراطيّة وأن التنوير هو فكّ القداسة عن مبادئ التنوير التي أريدَ لها أن تكون مبادئ كونيّة وعامّة، قابلة للتعميم في الزمان والمكان. ويضيف النبواني: (أفَضّل التأمّل على الإيديولوجية، والتساؤل على الإجابة، وأسعى لخلخلة الثابت وتحطيم الدوغمائيّات والقناعات التي تكلّست وصارت معيقات تجاوزها الزمن. - المواطنة هي الحلّ الأنجع والأفضل لتفادي أيّ حرب أهليّة ممكنة في مجتمع متعدّد طائفيّاً وإثنيّاً..

وحول قضايا المثقّف والتغيير يرى النبواني من خلال حوار روز جبران أن سؤال الهويّة من أصعب الأسئلة، وشخصيّاً ليس لديّ جواب عليه، ولا أؤمن أصلاً بالهويّة كجوهر مطلق؛ فالأنا التي حازت هويّتها النهائيّة هي أنا ميّتة. ويقول (إنني محامي القضايا العادلة الخاسرة، مثل القضيّة الفلسطينيّة ومشاريع التحرّر والعلمانيّة والديمقراطيّة والحرّيّات الفرديّة في العالم العربيّ ) ويختتم الدكتور النبواني كتابه (الغريب) بحوار مفتوح أجراه مع القارئات والقرّاء، حول الفلسفة من تأويل العالم إلى تغييره.

اعتبر أن هذه المقالة هي قراءة انطباعية أولية للكتاب، فالكتاب يفتح غابة من الأسئلة في الرأس ويترك القارئ فريسة البحث عن الإجابة، الإجابة التي لا يقدمها النبواني بقدر ما يشق الطريق إليها.

الروائي والناقد السوري، رواد العوام