عائشة واسمين: ما بين الحصار والتهجير غزة تكتب التاريخ...

عائشة واسمين: ما بين الحصار والتهجير غزة تكتب التاريخ... عائشة واسمين
سيشهد التاريخ أن هناك هجمات همجية تصنف كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة قامت بها دولة الاحتلال الاسرائيلي ضد شعب محتل ومحاصر منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، والعالم منقسم بين مشجع ومساند وبين صامت وفاقد الإرادة. منذ مدة، وقبل إعلان الحرب الحالية على قطاع غزة، تجاوزت إسرائيل وحكومتها المتطرفة بزعامة نتنياهو كل ما هو متعارف عليه دوليا من قوانين ومبادئ وأعراف وذلك باستفزاز مشاعر ليس فقط الفلسطينيين وإنما العالم العربي والإسلامي، فلا يكاد يمر يوم إلا ويتعرض الفلسطينيون لكل أنواع القتل والاعتقال ومصادرة أراضيهم وتقييد حرية التنقل والحركة بين مدن الضفة الغربية التي تقطعت وصالها بفعل سياسة الاستيطان الإسرائيلي المتسارعة منذ اتفاقات أوسلو (1994). وكأن الجانب الفلسطيني هو الذي كان عليه الالتزام بهذه الاتفاقات، في حين أن الجانب الإسرائيلي أعطيت له الفرصة الكاملة للإجهاز على ما تبقى من فلسطين التاريخية باستكمال كل المشاريع الاستيطانية لتصبح واقعا ويصبح الفلسطينيون محاصرين ومهددين بهدم ديارهم وبقتلهم وبفصلهم بجدار عازل عن أراضيهم. ولعل من بين الاستفزازات المتكررة ما كان يحدث في القدس وفي المسجد الأقصى من استباحة المقدسات الإسلامية واقتحام المتطرفين الصهاينة لباحات المسجد تحت حماية الجيش الإسرائيلي ولا أحد في العالم يندد أو على الأقل يذكر بأن هناك مواثيق وأعراف دولية تمنع ذلك في الأراضي المحتلة.
صحيح أن العالم استفاق صبيحة يوم السابع من أكتوبر على أخبار متسارعة مفادها أن رجال المقاومة الفلسطينية في شخص حركة حماس وتحديدا كتائب عز الدين القسام قد اجتازوا الحدود التي تفصل غزة عن غلافها الذي يشمل المستوطنات الاسرائيلية واقتحموا هذه المستوطنات بما فيها القواعد العسكرية واستولوا على العتاد العسكري وقتلوا من الجنود الإسرائيليين العديد فيما اقتادوا أخرين إلى الأسر إلى جانب عدد كبير من الرهائن من المدنيين في قطاع غزة. إنها عملية حملت اسم «طوفان الأقصى» غير مسبوقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية ولا في تاريخ المنطقة، أن تنطلق حركة حماس من قطاع غزة وتقوم بشكل مباغت بمجموعة من العمليات وضد أهداف محددة داخل المستوطنات الإسرائيلية المحصنة بسياج حدودي مع غزة دون سابق إنذار آو تحدير سابق من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فهذا هو الحدث الذي قلب كل الموازين ووضع الأسطورة العسكرية الإسرائيلية التي لا تقهر محل شك وتساؤلات: هل فعلا الذي حدث مر دون علم من الجانب الإسرائيلي الذي تهابه كل دولة المنطقة وتضرب له ألف حساب؟ أم أن هناك سيناريو قد تم إعداده من قبل للإطاحة بحركات المقاومة الفلسطينية من خلال جرها إلى خارج غزة وإشهاد العالم الغربي بأنها المعتدية وبعدها تطلق يد العنان لإسرائيل للإجهاز على غزة وممارسة كل أشكال الإبادة على ساكنتها دون هوادة ولا رحمة؟
في كل الحالات، إذا سلمنا بأن الأمر كان مفاجأة، فمن المفروض أن حركة حماس حسبت كل صغيرة وكبيرة قبل إقدامها على المواجهة المكشوفة وفي ميدان العدو وعلى دراية بأن إسرائيل سترد بقوة وستكون مسنودة من القوى العالمية وعلى رأسهم الولايات المتحدة أمريكية. إلى جانب ذلك، لا يمكن وضع خطة عسكرية بشكل عفوي دون دراسة عميقة لأدنى التفاصيل، لا مكان للخطأ لأنه سيكون قاتلا. لا يمكن لحركة مقاومة عاشت وخبرت جيدا كل ما يمكن أن تقوم به إسرائيل من تمويه وخدع واستمالة قلوب العالم إليها على أساس أن اليهود مروا من تجارب قاسية خلال الحرب العالمية الثانية وتعرضوا لكل أنواع القمع والابادة، أنها قادرة على كسب تعاطف العالم الغربي معها وأكثر من ذلك إعطاءها حق الرد بكل الطرق التي تناسبها دون قيد. فكيف لشعب كان أجداده ضحايا لممارسات لاإنسانية ممنهجة وفي أوطان أوربية ينسى هذه المعاناة بل أكثر من ذلك تهيأ له كل الظروف للانتقال إلى أرض أخرى تقتلع من شعب ليست له أي مسؤولية تاريخية تجاهه؟ التاريخ المعاصر حاضر ومثقل بالحقائق التي تبين كيف تم السطو على فلسطين وتسريع عمليات الاستيطان لكل شتات يهود العالم. لعل من الأسباب التي دفعت دول أوربية وأمريكا إلى الوقوف مع إسرائيل، أن أغلبية المستوطنين ضحايا «طوفان الأقصى» يحملون أيضا جنسيات هذه الدول. إذن المقاومة الفلسطينية بدخولها في هذه الحرب هي تحارب القوة العظمى الأمريكية ودول أوربا، وهذا يفسر توجه حاملة الطائرات جيرالد فورد بسرعة لنجدة إسرائيل وكذا الموقف المنحاز إلى إسرائيل وإعطائها الضوء الأخضر للانتقام وممارسة العدوان دون حدود على قطاع غزة دون التمييز بين المدنيين والمسلحين.
إن الهجوم المفاجئ لحركة حماس وما أحدثه من إرباك للسياسيين ورجال الاستخبارات في إسرائيل وما تبع ذلك من إهانة للجيش الإسرائيلي، سيظل حدثا عالقا بأذهان الاستراتيجيين من حيث عنصر المباغتة لأقوى جيش في منطقة الشرق الأوسط، ومن حيث اختراق السياج الحدودي في غفلة من حراسه، ومن حيث السرعة في الوصول إلى الأهداف وتحييدها، ومن حيث تنوع الوسائل والطرق للوصول إلى المستوطنات، ومن حيث التوقيت الذي يأتي بعد يوم من الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر1973. مما لا شك فيه أن يوم السابع من أكتوبر 2023 سيكون تاريخا فاصلا في منطقة الشرق الأوسط وسيتم ذكره كثيرا في المدارس الحربية التي تعنى بالدراسات الاستراتيجية، لأنه ببساطة يمكن أن يسجل بداية تهاوي أسطورة عسكرية لا تقهر أرعبت كل الدول المجاورة لها ودفعتها بشكل أو بأخر إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء والتوقيع معها على معاهدات سلام ولو من جانب واحد، أي أن هذه الدول تلتزم بالسلام في علاقاتها مع إسرائيل مقابل ضمان استمرار أنظمتها ونيل رضاها ورضى أمريكا.
كل المؤتمرات السابقة لجامعة الدول العربية حين كانت تعقد اجتماعاتها وكان الصوت العربي الرسمي يسمع منها كانت بياناتها الختامية تصر على أن السلام التي تريده إسرائيل في المنطقة لا يمكن أن يحل إلا باسترجاع الأراضي العربية وتحديدا الفلسطينية التي احتلت سنة 1967، بما معناه الأرض مقابل السلام. ولعل أخر هذه المؤتمرات (قمة بيروت) سنة 2002 الذي خرج بمجموعة نقاط تقترحها القمة العربية ضمن مبادرة السلام مع إسرائيل، كانت تكاد تطلب ود الإسرائيليين بتقديم تنازلات هامة. بعدها لم يعد هناك صوت عربي موحد إنما بقايا سياسة عربية تم تشتيتها مع ما أصاب المنطقة من ضعف ووهن وتمزيق في ظل الحرب الأمريكية على العراق والقضاء على نظام صدام حسين واستبداله بنظام مبني على الطائفية وما تبع ذلك من انتشار للمجموعات المتشددة الانتحارية ضد الغرب وضد مصالحها في المنطقة. مما زاد الطين بلة هو الربيع العربي وتداعياته على الأنظمة العربية نفسها، منها من تمت إزاحته أو إبعاده أو تصفيته.
لم تعد المنطقة كما كانت سابقا بل دخلت في صراعات فيما بينها خاصة دول الخليج التي كانت تطمح للعب أدوار بارزة أثناء وما بعد اندلاع فتيل الثورات العربية ولا سيما بعد انشغال الدول العربية مثل مصر والعراق وسوريا وليبيا بأوضاعها الداخلية، فظنت أن بإمكانها اقتناص فرص الغياب الريادي لكي توجه أو تساهم في صياغة خرائط جديدة وبحكام جدد أو بدعم الحكام الذين لم تتم إطاحتهم واستمروا في الحكم أو استعادة الأنظمة المتهاوية ومساعدتها من خلال الثورات المضادة للعودة إلى سدة الحكم. فعلا هكذا كانت الصور وما أكثرها من انقسام دول الخليج في مصر بين مساندة لبقايا حكم العسكر من خلال دعم وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في انقلابه على حكم محمد مرسي (الإمارات العربية- السعودية) أو دعم حكم هذا الأخير المنبثق عن ثورة 25 يناير 2011 (قطر)، في ليبيا مساندة أحد الأطراف المتنازعة حول الاستحواذ على مقاليد الحكم في ليبيا، في سوريا نفس السيناريو تمثل في الوقوف مع نظام بشار الأسد أو اختيار جانب المعارضة والثوار السوريين باختلاف مشاربهم... نعم التدخلات الخليجية باختلاف تموقعاتها مع أو ضد هي التي غيرت مجرى الربيع العربي وحولته إلى خريف عربي. هذه الدول المتنافسة فيما بينها كانت تطمح للعب أدوار إقليمية ولم لا دولية في غياب الدول العربية الوازنة رياديا سابقا، وخططت أكثر بكل الوسائل المتاحة لها من مال وتحالفات وعقد اتفاقات مع إسرائيل لتأمين الطريق نحو تبوأ مكانة الزعامة إقليميا ودوليا.
وقد شكلت إفرازات ما بعد الربيع العربي اهتمامات وانشغالات جديدة بحيث تراجعت القضية الفلسطينية بفعل صعود أزمات داخلية في شكل نزاعات مسلحة كادت أن تعصف بوحدة الدول. إذن لم تعد فلسطين هي المأساة التي لم تحل بل دول أخرى مثل اليمن وليبيا وسوريا والسودان تواجه تهديدا بالتفكك والانقسام. هذه الأوضاع المتفاقمة أدت إلى إبعاد القضية الفلسطينية عن دائرة اهتمام الشعوب العربية من خلال إذكاء الصراع بين حركتي فتح وحماس والاقتتال بينهما إلى جانب تماطل اسرائيل في تنفيذ التزاماتها وفقا لاتفاقات أوسلو لسنة 1994، دون أن ننسى ما كان يحاك من مؤامرات دولية صادرة عن الإدارة الأمريكية -أكانت ديمقراطية أو جمهورية- التي كانت تدعي أنها راعية السلام وتسعى لتحقيق حل الدولتين، لكن في الحقيقة كانت -بشكل أو بآخر- تخدم فقط مصالح حليفتها إسرائيل وتبرر ما تقوم به هذه الأخيرة من انتهاكات وجرائم في حق الشعب الفلسطيني. فمع بداية ولاية كل رئيس أمريكي، يتم إطلاق مقترح لتسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من خلال حل الدولتين لكن بمسميات مختلفة (مع أوباما خارطة الطريق، مع ترامب ضفقة القرن...). الغرض من هذه المبادرات هو تأجيل الحل أو إلهاء الفلسطينيين وإيهامهم أن هناك حلا جادا لقضيتهم. لكن في الحقيقة هو إعطاء الوقت الكافي لإسرائيل لاستكمال مخططات ضم وتهويد الأراضي الفلسطينية وبعدها فرض سياسة الأمر الواقع...
هكذا يبدو أن إسرائيل ستمضي في عدوانها على قطاع غزة بشكل يختلف كليا عن الحروب السابقة التي شنتها على قطاع غزة خاصة خلال سنوات (2009-2014-2021...). وكأنها الآن عازمة على اقتلاع غزة من مكانها وإخراج ما تبقى من سكانها إلى سيناء أي بما معناه القضاء على حركة حماس بكل الوسائل وبسط السيطرة على غزة. لقد تمت شيطنة حركة حماس ووصفت بأنها منظمة داعشية إرهابية، وقدمت أدلة قاطعة (فيديو وصور) تظهر الممارسات الفظيعة لوزير الخارجية الأمريكي الذي كان متأثرا وهو يتكلم عنها أن مثلها لم يحدث سابقا. لكن يظل عالقا بالأذهان أن بول كولن وزير الخارجية في إدارة جورج بوش كان قد قدم أمام مجلس الأمن أدلة قاطعة بأن النظام العراقي آنذاك يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وذلك لإعطاء شرعية للحرب المعلنة من طرفهم على العراق سنة 2003، واتضح فيما بعد أن لا وجود لهذه الأسلحة. هذا فقط للتذكير أن ما يتم إعداده حاليا يدخل ضمن الاستعداد للحرب القادمة في المنطقة وكل الوسائل ممكنه للدفع بها حتى ولو كانت غير حقيقية لأن الغرض هو تبرير ما سيتم القيام به من عمليات عسكرية وما سيترتب عن ذلك من نتائج وخيمة.
لقد شرعت إسرائيل في حربها ضد قطاع غزة ولجأت إلى استعمال القوة المفرطة بواسطة الطيران الحربي ضد المواقع المدنية، مخلفة جراء القصف المتواصل دمار كبير في المباني لدرجة اختفاء أحياء كاملة بساكنتها. لم تكتف إسرائيل بالقصف دون سابق إندار بل اتخذت قرارا بقطع الكهرباء والماء ومنع دخول المواد الغذائية والمستلزمات الطبية، أي إطباق حصار شامل على منطقة آهلة بالسكان المدنيين دون إبداء أي استثناء أو معاملة تمييزية لتجنيب الاطفال والشيوخ والنساء أهوال الحرب. ما شاهده العالم هو قصف ممنهج للمواقع المدنية يرافقه تطهير عرقي وإبادة جماعية وتهجير قسري، وهذا في حد ذاته مخالف لمبادئ وقوانين القانون الدولي الإنساني ويصنف ضمن جرائم الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وأكثر من ذلك أن المنطقة المستهدفة تدخل ضمن مجال الاحتلال الإسرائيلي وبالتالي يجب حماية السكان المدنيين وإبعادهم عن دائرة العمليات العسكرية وألا يتم استهدافهم بأي شكل من الأشكال بالضربات العسكرية. فالقانون الدولي الإنساني -وتحديدا البروتوكولين المضافين (1977) لاتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949- يلزم الدول على احترام مبدأ التمييز بين المقاتلين والمدنيين على أساس منع أي استهداف عسكري للسكان المدنيين والقيام بالهجمات العشوائية وتدمير البنى التحتية الضرورية للمدنيين واستهداف دور العبادة وتدمير المواقع الأثرية... كذلك، يجب اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لتفادي المعاناة الإنسانية عند استعمال الاسلحة، بحيث يجب ألا تلحق الضرر بالمدنيين وبالمنشآت المدنية وكذا ضرورة الالتزام بمبدأ تقييد وضبط وسائل الحاق الضرر بالخصم، (المادة 35 من بروتوكول جنيف الأول لسنة 1977).

إجمالا، كان من الممكن أن تتدخل القوى الدولية الغربية من باب تقديم الوساطة بين حماس وإسرائيل وحتى لو كان فرض عقوبات على حماس لآنها بادرت بالهجوم ولكن من الحكمة أيضا كان على هذه الدول أن تعمل على إيجاد حل ينصف الفلسطينيين بتأسيس دولتهم وبالعيش الكريم داخلها. لكن أن تأتي هذه الدول إلى المنطقة ببوارجها الحربية وتقف فقط مع إسرائيل كانت على مدار سنين القوة التي لا تقهر، لتحارب حركة مقاومة ومدنيين عزل، فهذا إن دل على شيء فهو إعلان حرب تحالف دولي إلى جانب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ليس فقط في غزة إنما في جميع فلسطين. وقد غطت هبة الدول الغربية على أي دور ممكن لمنظمة الأمم المتحدة في مناقشة الأوضاع بغزة، من شأنه إعطاء فرصة للقوى الدولية التي اتخذت موقفا حياديا (روسيا والصين) ولو من باب إحداث توازن على مستوى مراكز صناعة القرارات الدولية وعرقلة الاصطفاف الغربي -مع وجود استثناءات- إلى جانب إسرائيل وإيقاف المجازر المرتكبة والتهجير الممنهج الممارس في حق فلسطينيي غزة. زد على ذلك، وفي خضم ما يجري، هل تتحرك الجامعة العربية وتتخذ قرارا على الأقل يحسب لها أنها وقفت مع الشعب الفلسطيني في محنته، وهي تعرف أن معظم أعضائها مستهدفين مستقبلا من أي مخطط للمنطقة، وأبعد من ذلك ما الذي يمنع منظمة التعاون الإسلامي من إعلاء صوتها في وجه هجمات الإبادة التي تطال الشعب الفلسطيني؟ وهل تستطيع الدول العربية المطبعة مع إسرائيل أن تلعب دورا -على الأقل يحسب لها- لتجنيب الفلسطينيين أهوال الحرب؟؟؟؟.

 

عائشة واسمين/ جامعة محمد الخامس بالرباط