ما إن أعلن الملك محمد السادس، قبل أسبوع (الثلاثاء 26 شتنبر2023 )، عن انطلاق إعادة النظر في "مدونة الأسرة"، ومنح اللجنة المكلفة برئاسة رئيس الحكومة (تتكون اللجنة المكلفة من وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، محمد عبد النباوي، ورئيس النيابة العامة، الحسن الداكي) أجل 6 أشهر كمُهلة من أجل رفع المقترحات، حتى اختلط الحابل بالنابل، وخاصة في «وسائل الاتصال الاجتماعي» الذي "اكتظ" على أوسع نطاق بنصوص وهمية قال مراقبون إنها «اختلقت» من أجل نشر الفوضى والذعر والبلبلة، وعرقلة الوصول إلى نسخة متقدمة من مدونة الأحوال الشخصية.
فمن الواضح أنه بعد حوالي 20 سنة من الحياة التي قضتها مدونة الأسرة (2004)، سيعود الاختلاف، كما حدث في السابق، إلى ذروته في النقاش العمومي، بين من يُطالبون بقوانين تلائم مُقتضيات الشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد، وبين من يشيرون إلى ضرورة تحديثها، خاصة فيما يخص مسائل الإرث وتزويج القاصرات والعلاقات الرضائية والولادات خارج مؤسسات الزواج، والولاية على الأبناء، ومسطرة الصلح، ومساطر النفقة والطلاق، والنيابة الشرعية، وسكن المحضونين، وإثبات النسب بواسطة اختبار «الحمض النووي»، وزواج القاصرات، وكلها قضايا خلافية يربطها البعض بـ «المقدس» و»الثوابت الدينية»، فيما يعتبرها آخرون متقادمة ولا تستجيب لتطورات العصر، ولا للطفرة التشريعية الوطنية، ولا للتحولات التي عرفها المجتمع المغربي، ولا لكل أشكال «الاجتهاد» التي أنتجها التنويريون والحقوقيون. والرهان الأساس الآن المطروح أمام اللجنة، بل أمام مختلف المتدخلين في هذا الموضوع «المجلس العلمي الأعلى، الوزارة المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، هيئات وفعاليات المجتمع المدني، الباحثون والمختصون»، هو الانكباب على العمل الهادئ والرصين، لإنجاح هذا الورش دون الحاجة إلى «هتاف الجماهير»، ولا لكل تلك النصوص المكسوة بالتزوير والمعلقة في خاصرة الذكور حتى تبقى الأمور على حالها.
لقد اجتمعت اللجنة، حتى الآن، ثلاث مرات (أيام 27 و29 و30 شتنبر 2023)، مما يؤشر على العد العكسي لمراجعة قوانين المدونة ومواكبتها بالتقييم والتقويم لمعالجة النقائص قد انطلق بالفعل، وأن الأمر لم يعد يخضع لأي «ذراع حديدية» قد ترجح كفة هذا الفريق ضد الآخر، وأن الانتصار ينبغي أن ينبض في مفاصل الوطن بكامله بصرف النظر عن الأحزاب والإيديولوجيات، كما جرى الأمر مع «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية».
إن هذا الإطار المؤسساتي التشاركي والتشاوري لإعادة النظر في مدونة الأسرة يروم تحديدا تجاوز «الإطارات المغلقة»، والارتفاع عن النقاش الحامي الوطيس بين المحافظين والحداثيين، لصالح مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي والقوانين الوطنية التي عرفت تطورا ملحوظا يستجيب للقيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. ومع ذلك، فإن الإشكال المطروح الآن على اللجنة يكمن أساسا في الوزن السياسي والفكري والثقافي لبعض أعضائها، إذ يتساءل المغاربة كيف يؤتمن رئيس حكومة أضاقهم الويلات وضيّق عليهم عيشهم بالغلاء في المواد الأساسية وإخلاف الوعود والهروب إلى الأمام على أهم ملف يؤطر حياتهم وحياة أسرهم وأطفالهم؟ كيف يمكن لوزير اشتهر بالتلاعب في مباراة ولوج مهنة المحاماة أن يحقق الفارق؟ وكيف يمكن إقناع المغاربة بأن مسؤولا يدعي أنه يعرف لون «التقاشر» «الجوارب» التي يرتديها المواطنون، كما يحقر الشهادات التي حصل عليها أبناؤهم مثلما يحقر الجامعات والمعاهد الوطنية، مؤتمن على ملف حيوي وخطير، مثل مدونة الأسرة؟ بل الأدهى من ذلك هل بمثل هؤلاء المسؤولين، بصرف النظر عن السياق الانتخابي الذي أفرزهم وأتى بهم إلى السلطة الحكومية، سيكسب المغرب الرهان، وسيكون المغاربة، عبر جمعياتهم وهيئاتهم المدنية مستوى الإرادة الملكية، خاصة أن وزير العدل يلقي ذات اليمين وذات الشمال بمواقف «غريبة» تصب الزيت على النار، وتستفز فئات عديدة؟
إن ملف إعادة النظر في مدونة الأسرة غير قابل للمزايدات السياسية والإيديولوجية، كما ينبغي على مدبريه، وهذا واضح في الرسالة الملكية التي وجهها إلى رئيس الحكومة، أن يبتعدوا عن الاستفزاز وإثارة حفيظة فئات ضد فئات أخرى. هذا ورش وطني، ومن المجالات المحفوظ التقرير النهائي في شأنها لإمارة المؤمنين بكل ثقلها السياسي والديني والتاريخي. وبطبيعة الحال، فإن التشاور الآن مع المؤسسات المعنية يرتكز بالأساس، وعلى نحو لا مجال فيه لأي تأويل أو اجتهاد ينتصر لهذا الطرف أو ذاك، حتى لو كان هذا الطرف يمثل الأغلبية الحكومية، على أرضية قانونية، أي أن أساس إعادة النظر في المدونة هو تجاوز الاختلال بين النص والواقع، وتجويدها بما يجعلها متطابقة مع مقتضيات الدستور ومضامين الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، وأيضا بما ينسجم مع طموحات تحقيق التمكين للنساء المغربيات، وتعزيز المساواة بين الجنسين المعبر عنها في النموذج التنموي الجديد، وتمتيع المرأة بجميع حقوقها دون أدنى تمييز.
إن إخراج المدونة الجديدة «المعدلة والمتلائمة»، التي من المنتظر أن ترى النور بعد 6 أشهر، تقتضي من الجميع الابتعاد عن إثارة القلاقل والتخوين والرمي بالكفر والخروج عن الدين أو نعت الآخر بالظلامية والتطرف والتمييز، أولا لأنها ورش وطني سيتعايش في ظله الجميع، وثانيا لأن الإطار المؤسساتي الذي ستتم إعادة النظر داخله مبني على التشاركية والتشاور. ومن هنا تأتي خطورة «النصوص الزائفة»، ونشر الأكاذيب التي قد تؤثر سلبا على الأسر المغربية، بدعوى أن المغرب سيتحول إلى «دار كفر»، وأن المدونة ستشجع الشباب على العلاقات الرضائية خارج مؤسسات الزواج، كما تشجع النساء على الطلاق، بل هناك من ذهب إلى حد أن الزواج سيتحول، في ظل المدونة الجديدة، إلى مشروع للكسب السريع ومراكمة الثروات بالنسبة للنساء المطلقات، بينما سيحول الرجال إلى عبيد بحكم القانون!
لا يتعلق الأمر، إذن، بتغيير شامل لمدونة الأسرة، بل التكليف واقع لجهة ملء الثغرات القانونية بما يتلاءم مع القوانين الوطنية والاتفاقات الدولية المصادق عليها. وهذا ورش مفتوح يهم بالدرجة الأولى موضوعات، من قبيل الميراث، والوصية، والإرث بالتعصيب، والكد والسعاية، وميراث الأجانب، وزواج القاصرات، وزواج المغربيات المسلمات بغير المسلمين، وحضانة الأطفال بعد الطلاق، وحق الزيارة، والتعويض عن المسكن، والنيابة الشرعية، والطلاق للضرر، وفترة ما قبل الطلاق، والنسب، والنفقة، والمتعة. وهو ورش صعب جدا، ويتطلب من الجميع الابتعاد عن «وسخ الانتخابات» و«دسائس السياسة» والتحلي بروح وطنية عالية متشبعة بقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وبالشجاعة للقضاء على كل أشكال التمييز، لصناعة مغرب جديد تكون السيادة فيه للإنسان، وهذا هو المجال الوحيد للمنافسة بين اللجنة وباقي المتدخلين الحكوميين والتمثيليين والمدنيين.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"