حدث أن قرأنا ما هو أطرف من دعوة الحوار التي وجهها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، إلى "داعش"، إثر طرد التنظيم لمسيحيي الموصل: دفاع مسيحي عن تلك الفكرة المُربَكة والمدهشة في آن.
دعا الراعي "الدولة الإسلامية" إلى الحوار لأن "واحدة فقط تجمعنا بكم، هي إنسانية الإنسان... فلا قيم الدّين تجمع بيننا وأنتم تنقضون جوهر الإسلام وتعاليمه، ولا فن السياسة الشريف". أما الدفاع عن دعوة البطريرك، والذي يفوق المقترح الأصلي سوريالية، فيتمحور حول فكرة التسليم بهذا "النظام الجديد" وأحكامه، حتى إشعار آخر، من باب إيثار السيء على الأسوأ: أي لوم مسيحيي الموصل على تغيبهم عن اجتماع مزعوم دعت إليه "داعش" فعاليات المدينة العراقية المنكوبة، ثم حثهم على دفع الجزية المطلوبة، درءاً للدخول في الإسلام أو الموت أو الرحيل. وأخيراً، حشرهم في "خانة اليك"، بالقول إنه إذا كانت المشكلة مالية، فهي امتحان المسيحيين في صدق تضامنهم من أجل البقاء في أرضهم!
وإذا نحينا جانباً هنا، وإن بصعوبة، غواية النكتة في فكرة "الحوار" مع تنظيم لاتاريخي ومعاصر في الوقت ذاته، يتداول القاصي والداني أعاجيب صوره وأخباره ومجازره، نبقى مع خلاصة واحدة. خلاصة لا تحتويها ذمِّية دفاع مسيحاني، قد يقترب من البلاهة في مقاربة أزمة من هذا النوع والحجم. ذلك أن المسيحيين، كفئة أقلية ومستضعفة في هذا الشرق، ربما ما عادوا يملكون سواه، سواء اقتلعوا من أرضهم أم صمدوا فيها. إلا أن هذه الذمّية نفسها تبدو مؤشراً إضافياً على يأس عارم من التفاوض مع الإسلام نفسه، كعقيدة وممارسة، الإسلام التاريخي و"المعاصر"، إذا ما تبلور بحذافيره المستعادة من غياهب الزمن.. ولو تم تلطيف القنوط بشعار "نقض داعش للإسلام في جوهره وتعاليمه".
والحق إن النكتة قد تتحول عقدة في الجبين، حين نقرأ نصوصاً من داخل "الفسطاط" الإسلامي المقابل. نصوص تفند، بحُسن نيّة، شروط استيفاء الجزية من الرعايا غير المسلمين (أنها بمثابة ضريبة مقابل حمايتهم من أي اعتداء خارجي، ولإعفائهم من الاشتراك في حرب يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، وأنه إذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى جيش المسلمين برضاه فإنه يُعفى من دفع الجزية، الخ..). والهدف من هذه الاستعادة هو القول بأن شروط الجزية لم تعد تنطبق على المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى، لأنهم يدافعون عن الوطن بانخراطهم في الجيش الوطني، ويسددون ضرائب للدولة!
هي المقولة ما غيرها إذاً: هذا ليس الإسلام، إنهم يشوهونه... وفي بطن المنطلق هذا تسليمٌ بسيادة الإسلام كسلطة، رحيمة كانت بـ "الآخر"، أم بطّاشة. فيما المُواطنَة تزين حواف الخطاب كترف تجميلي، حبة كرز على قالب الحلوى. خطاب يُلاك حدّ العقم والانفصال عن الواقع، وأخيراً وليس آخراً خلال الاحتفالات بعيد تأسيس الجيش اللبناني: هذا ليس الإسلام، بل إن الدين ومؤمنيه ضحية هؤلاء المتطرفين. ولعل هنا ما يذكر بدعايات رسمية لطالما التمست الأعذار لحكام عرب اشتهروا بالطغمة أكثر من أي شيء آخر، على طريقة: هو كويس، راغب في الإصلاح، لكنه محاط بالفاسدين المجرمين.
وتتمدد المقولة في أحاديث صالونات، وصحف ومواقع إلكترونية، سواء بسواء، لتبلغ الدّرك الشعبوي المألوف: الإسلام حرّر المرأة (!) ساوى بين الناس (؟)، تنزّل رحمة بالعالمين و"داعش" لا تماثله في شيء... أو يذهب الكلام إلى أن "داعش" هي ثمرة مؤامرة صهيونية/أميركية/خليجية لتمويل وتغذية إرهاب في لبوس الإسلام البريء منه، بهدف تقسيم المنطقة وبث الفرقة بين متحابين من أبناء الوطن الواحد.. حتى ينزلق المنطق إلى نكتة جديدة تجسدت فعلاً في "خبر" نشره موقع إلكتروني: أبو بكر البغدادي أصله يهودي، جنّدته الموساد، وعاونته أجهزة استخبارات أميركية وبريطانية وإسرائيلية لخلق تنظيم إرهابي!
قد يقول قائل إن وسائل الإعلام من الدرجة العاشرة كثيرة ولا يعول عليها، وإن كلام المقاهي وغرف الجلوس، لا يستحق التوقف عنده. لكن، رغم صحة ما سبق، فإن نظريتي المؤامرة والإسلام المظلوم، منتشرتان أكثر بكثير مما تظن النخبة. وهو انتشار موصوم أيضاً بدمغة ممانعاتية مفادها أن هذا هو "الربيع العربي"، هذا هو التخلف الدموي الذي سنعيش في ظله إن سقطنا في الفخ المستورد وأسقطنا الأنظمة الراهنة التي، من الأرحم لنا، أن نحاول إصلاح ما نستطيعه منها ونتعايش مع ما يستعصي من استبدادها. بل إن أصواتاً يومية في الشارع، لطالما ناهضت حزب الله لأسباب بديهية ومحقة -تبدأ بإيديولوجيته وعقيدته الدينية والحزبية ولا تنتهي بنهجه السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة- باتت تهمس بامتنانها لوجود الحزب لأنه "يقينا شرّ داعش". ويُنسى فجأة أن الحزب، بأدائه، اجتذب التنظيم وأشباهه إلى لبنان، وأنه يقود المواجهة من منطلق الذود عن "الجماعة الطائفية" لا حماية الوطن المتعدد.
والحال.. هل يمكن القول إنها المناسبة المثلى الآن لمراجعة الإسلام نفسه؟ للنظر في سبل إصلاح ديني، قُمع رواده مراراً، على مر قرون، وذوَوا منسيين بين ثنايا التاريخ الرسمي، أو معاقَبين بالقتل والنفي والتهميش الحديث تحت ضغوط السجن أو الفصل عن الزوج(ة)؟
صحيح أن الأديان والطوائف في المنطقة، لطالما كانت رايات هوية جماعية وفردية. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، ولأسباب عديدة. أبرزها نكوصنا كدول ومجتمعات عن استكمال تحررنا من الاستعمار بديموقراطيات وطنية، إضافة إلى تعميق السلطات "الأبدية" لتلك "الهويات" بدءاً من ذاتها. لا شك أن كل هذا يصعّب مهمة إعادة النظر في الإسلام وتاريخنا معه وفيه. غير أن المأزق الراهن ربما يكون الدافع الأهم لبدء كل من يخطب فينا، مُديناً التطرف الديني كاستحقاق مصيري يزداد خطورة، في إعادة التفكير في الإسلام، كتاباً وأحاديث صحيحة أو مشكوكاً فيها. إعادة قراءة لمفاهيم الإسلام وشعائره وأحكامه، الأساسي منها والفرعي. بل ربما يجب بدء التفكير من حقنا في مثل هذا التفكير! في كسر هذا المحرّم الذي كسرته أديان ومجتمعات أخرى منذ أزمان وعصور. ألم يحن دورنا بعد؟ ومتى، إن لم يكن الآن؟
هل كل ما نراه اليوم هو فعلاً ليس الإسلام؟ وما هو الإسلام "الصحيح" إذاً؟ وهل هو المطلوب أساساً، أم أن مقارعته ممكنة، ونقده؟ وإذا كان ما تأتيه "داعش" و"النصرة" وغيرهما ليس هو الإسلام، فمن هؤلاء المسلمون المنضوون في تلك التنظيمات؟ منومون مغناطيسياً؟ والبيئات التي تفرزهم أو تحضنهم، هل جُعل من خلفها سداً ومن أمامها سداً فأغشيت فهي لا تبصر؟ وإذا نحينا أولئك المسلمين وبيئاتهم، من يبقى؟ والاعتدال الذي يرطن به مثقفون وساسة، ضاربين عليه أمثلة من دول العالم والجوار، هل هو فعلاً وجه من وجوه الإسلام؟ أم أنه ناتج عن تعديل وتدوير زوايا نال بالفعل من أصل الدين الذي صار شيئاً آخر غير ذاته؟ وأي اعتدال نريد، وبأي تعديلات؟ الإسلام "الأصيل"، هل له وجود؟ والأهم، هل نريده، وهل نملك تنحيته من الحيز العام؟ هل الإسلام قابل لإعادة إنتاجه بلغة العصر؟ وبأي ثمن؟ النتيجة ربما تستحق الثمن المطروح.. وقد تكون أيضاً مستحيلة. لكن الأسئلة ضرورية، وضروري الفهم أنها مرتبطة عضوياً بالاستحقاق السياسي والأمني الذي طرحه "الربيع العربي" منذ انطلاقته.
الإسلام اليوم هو المأزق الهوياتي، عنوان تاريخي عسكري وسياسي. جناحاه السني والشيعي في صراع، استفحل الآن، ولطالما اصطبغ بصبغة السلطة. الإسلام هو السلطة وضحاياها. هو المسألة الثقافية وهوامشها وأضدادها. باسمه تنهض عصابات تاريخنا الحديث، منذ انهيار الخلافة العثمانية.. وها هي اليوم "الدولة الإسلامية". هو، أحياناً، أقليات تبطش بأكثريات يزيدها الشعور بالمظلومية جموحاً. وهو، غالباً، أكثريات ترهب أقليات إلى حد الموت أو التهجير..
وقد يبلغ الترهيب ذروة مضحكة، طُرفة يائسة أخرى تضاف إلى فكرة الكاردينال الراعي عن "الحوار". فمن شدة الخوف، نرى مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس، جورج صليبا، يمسك كتاب التاريخ بالمقلوب، مستقرئاً فيه أن "أميركا وأوروبا تغذيان الإرهابيين وتفكران بطرد المسيحيين من المنطقة، خصوصا فرنسا التي سلمت بلداننا المسيحية الى العثمانيين"، هاذياً بأن "أوروبا تكره المسيحيين وهي مع اليهود والصهيونية.. واللوم يقع أيضاً على السعودية وقطر وتركيا التي اضطهدت المسيحيين"...
وحيرة السامع، كل حيرته: أيترك للضحك أن يجلجل، أم يسترسل في البكاء؟
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية، بموافقة الكاتبة)