استوقفني كثيرا خبر يتعلق بإعلان النتائج النهائية للمباراة الثانية لنيل شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، وذلك بعد جدل واسع حول الامتحان الأول للمحاماة، الذي أثار احتجاجات وتفاعلات مجتمعية وسياسية وقانونية بالبلاد.
وما دفعني للكتابة في الموضوع وفي هذا الوقت بالذات هو الإقبال المتزايد على هذه المهنة، حيث تقدمت لاجتياز المباراة الآلاف من الشباب خريجي الجامعات كطوق نجاة من شبح البطالة، والعديد من أساتذة التعليم العالي والموظفين بكل أشكالهم وألوانهم بحثا عن دخل إضافي. فماهي المحاماة؟ ولماذا كانت المحاماة رسالة قبل أن تكون مهنة؟
بادئ ذي بدء نشير إلى أن كلمة محامي بالفرنسية Avocat مشتقة من كلمتين باللاتينية (Ad,Vocatus) الأولى (Ad) ويقصد بها المرافق، والثانية (Vocatus) ويقصد بها الشخص المستدعى للوقوف أمام المحكمة، وبعد التطور الذي حدث في مفهوم هاتين الكلمتين أصبحتا تكتبان في كلمة واحدة (Avocat) أي محامي، والتي يستمد مدلولها من اللغة اللاتينية التي يقصد بها مرافق الشخص المستدعى للمثول أمام المحكمة.
وفي الواقع العملي تعني مهنة المحاماة معاونة المدعي أو المدعى عليه للوصول إلى الحق، وسلوك الطرق القانونية المنصوص عليها في متون القوانين لاستعادة الحقوق المغصوبة او المسيطر عليها دون وجه حق أو المتنازع عليها الى أصحابها، والمساهمة في الوصول الى الحقيقة، ويعتبر بعض أن المحاماة قنطرة الناس للوصول الى الحق والجسر الذي يسهل لهم العبور الى الحق، حيث يفترض أن المحاماة تعني الدفاع عن حقوق الناس أمام القضاء وحماية تلك الحقوق من التعدي.
والمحاماة مهنة خطيرة وشريفة في الوقت نفسه، فهي خطيرة لأنها فيها تنظيم الحقوق وفيها عبء المسؤولية وهي شريفة لأنها تتميز بمهمة الدفاع عن حقوق الغير، وتقديم الاستشارات، ومعاونة القضاة في إيصال الحق لأهله.
ومن هنا ندرك أهمية مهنة المحاماة كرسالة إنسانية قبل أن تكون مهنة لطلب الرزق، كونها رسالة الدفاع والمؤازرة، فالمحامي هو نصير المظلوم وهو بذلك يقوم بأقدس المهام، أما الظالم فله أيضا حقه وهو حقه بالدفاع عن نفسه وهو واجب المحامي أيضا يقوم بهذا العبء الثقيل فهو لا يشد على يد الظالم وإنما يمكنه من استخدام حقه بالدفاع عن نفسه " وكم من ظالم تبين بعد حين أنه مظلوم، وكم من مظلوم تبين بعد حين أنه ظالم" .
وكما هو معروف فإن المحاماة ترتبط بالحياة القانونية، وتشكل الدعامة الأساسية لتحقيق العدل، والكرامة فهي مهنة مستقلة تشكل مع القضاء سلطة العدل، وهي تشارك السلطة القضائية لتحقيق العدالة، لأنها القضاء الواقف الذي يشارك القاضي (القضاء الجالس) في تحقيق العدالة، إذ لا يتصور وجود عدالة بدون محاماة باعتبارها قطب الرحى وشريك أساسي للقضاء في إقامة العدالة.
وهكذا فدور المحامي يتمثل في مساعدة القضاء للوصول إلى تحقيق العدالة وإظهار الحقيقة، وهو جزء لا يتجزأ من أسرة القضاء.
وهذا ما أكد عليه المشرع المغربي في نص المادة الأولى من القانون رقم 28.08 المتعلق بالمحاماة بقوله: المحاماة مهنة حرة، مستقلة، تساعد القضاء، وتساهم في تحقيق العدالة، والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء.
ولمهنة بهذه الأهمية فقد وضع المشرع المغربي المحامين تحت القسم المهني الذي يلخص أهم الضوابط التي يجب على المحامي أن يتقيد بها إذ جاء كما يلي:
"أقسم بالله العظيم أن أمارس مهام الدفاع والاستشارة بشرف وكرامة وضمير ونزاهة واستقلال وإنسانية، وأن لا أحيد عن الاحترام الواجب للمؤسسات القضائية وقواعد المهنة التي أنتمي إليها وأن أحافظ على السر المهني، وأن لا أبوح أو أنشر ما يخالف القوانين والأنظمة والأخلاق العامة، وأمن الدولة، والسلم العمومي ".
وجاء ذلك القسم لأن المحامي لا سلطان عليه في ذلك إلا ضميره وإيمانه بحق وكيله الذي ائتمنه على حقه وحريته وجاء من هنا المثل الشهير "لا تستطيع أن تكذب على طبيبك ومحاميك"، لأنك لن تجد من يحمل لواء حقك بل ويؤمن به حتى يمكنك استعادته.
ونظرا لأهمية دور المحامي في المجتمع باعتباره أحد العناصر التي ترتكز عليها العدالة، فقد وصفها بعض فقهاء القانون بأنها مهنة سامية، والبعض الآخر وصفها بأنها رسالة نبيلة.
وهي فعلا قبل أن تكون مهنة فهي رسالة لا بد أن تؤدى على أكمل وجه، لذلك على المحامي أن يتحلى بمبادئ وأخلاق أساسية كالاستقلال والنزاهة والصدق والأمانة والثقة والالتزام بالسرية والابتعاد عن السمسرة. هذه قيم وسلوكيات يجب أن تكون بمثابة الموجه لعلاقاته مع المحامين من زملائه من جهة، وموكليه من جهة أخرى.
يقول الفقيه القانوني والمحامي الراحل رجائي عطيه في كتابه القيم (رسالة المحاماة) "المحاماة رسالة.. تستمد هذا المعنى الجليل من غايتها ونهجها.. من عطائها للغير وذودها في حمايته والدفاع عنه.. المحامي مشغول بالآخرين وهمومهم عن نفسه.. لا ينكفئ أو ينحصر في ذاته، وإنما هو مشغول بالأمانة التي يحملها، مهموم بالدفاع عن غيره.. يناصره ويحميه ويكف عنه المظالم، ويرد إليه حقه.. هذه (الحماية) هي معنى اسم (المحاماة)، وغاية فعل: (حامي) و (يحمي)، وجوهر مهمة وأمانة (المحامي). "
وأيضا يقول الفقيه الشهير الراحل السنهوري: في شأن المحاماة " ليس من عمل المحامين قلب الثوابت أو تضليل الحقائق، فلا تشعر بالفخر كثيرا عندما توزع الرشاوى لكسب القضايا لأنك أصبحت مجرما بسبب مجرم فأنت إذن مثله لأنك تخسر ذاتك لتربح قضية.... فالقضية رابحة وستكون أنت الخاسر ".
وباختصار، فإن المحاماة قبل أن تكون مهنة فهي عشق ورسالة غايتها نصرة الحق وتحقيق العدالة إلا أن هذه الرسالة يحدق بها اليوم خطر جسيم، فهذه المهنة الشريفة والرسالة النبيلة أصبحت مهنة من لا مهنة له، فدخل عليها من ليس من أهلها.
وهنا نتساءل: ألم يحن الوقت بعد لحصانة رسالة الشرفاء من الدخلاء؟!