عبد الصمد الشنتوف: "عمي علي".. أسطورة المدشر

عبد الصمد الشنتوف: "عمي علي".. أسطورة المدشر عبد الصمد الشنتوف
في فناء الدار، تجمعنا حول "عمي علي"، وكلنا شوق ولهفة إلى الإصغاء إليه. شيخ شارف على التسعين من عمره. هده الزمن، استبد به العمر، ونالت التضاريس من جسده الضامر، عدا ذاكرته التي بقيت متقدة. يلقبونه بأسطورة المدشر، إذ يمتلك خزانا هائلا من حكايات لا تنتهي عن بلدته وضواحيها.
كان "عمي علي" قد عدل جلسته فوق دكة إسمنتية علوها نصف متر، متخذا من فراء الخروف كمتكئ وثير. قبالته، وعلى بعد بضعة أمتار يقبع فرن طيني لإعداد الخبز، يحوم حوله ديك مزهو بريشه اللامع.
جلسنا حذو شجرة الليمون نشرب الشاي ونتحدث. كنا نتطلع إليه في اهتمام وتمعن بالغ. أطلق العنان لذاكرته المشتعلة، واسترسل في حديث عن الحياة قبل سبعين عاما أو أكثر، حياة تختلف عن حياتنا بكل محطاتها وتقلباتها. يغوص بنا بين ثنايا محكيات التاريخ والماضي البعيد، وكأننا أمام ساحر يبهر مشاهديه باستخراج حمام أبيض زاجل من صندوق خشبي. 
نرنو إليه في خشوع وصمت، حتى خلنا أنفسنا أمام فقيه مبجل متربع على مقعد فليني وسط المسيد. 
يقول "عمي علي" إن الدنيا لم تعد بخير في قرية ترتاح بين صخور وعرة أعلى جبل سوماتة. قرية عنيدة كما نعتها الكولونيل أسينسيو. اشتهرت برماة بارعين أثخنوا جراح الإسبان وقارعوهم بضراوة. لا يفتأ يحدثنا بزهو عن زمن هارب، زمن الرجال الأشداء الأحرار على حد تعبيره، يفتخر به إلى حد الثمالة. يتنهد في حنق، ثم يردد بنبرة يطبعها الإحباط و الحسرة: مذ أن هجمت العشبة الخضراء على المنطقة، والحياة لم تعد بخير، تقهقرت القيم وتفشى الانحراف، ودخلت البلدة في نفق معتم. لاريب أن السماء غاضبة. لقد اختفت البركة، وحلت بنا اللعنة.
لا شيء يضاهي الاستمتاع بمحكياته اللذيذة.
 إنه "عمي علي" القروي البسيط، وراعي الغنم ذاته الذي ورد إسمه في كتاب "عابر إلى الضباب"، حين كان يرعى الغنم رفقة صاحبه عبد الله قبل هجرة هذا الأخير إلى بريطانيا في نهاية الستينات، لتنقلب حياته رأسا على عقب، وتظل حياة "عمي علي" على حالها، منتشية بالأمل، قائمة في مكانها كشجرة الدلم ضاربة عروقها في الأرض. وإليكم النص كما جاء في الصفحة 169 في مشهد تصويري بديع:
《مشيت في هرولة نحو المقهى تحت زخات المطر، بمجرد ما ولجته انتحيت إحدى أركانه أرتشف كوب شاي بالنعناع، كان المقهى هادئا خاويا على عروشه قلما يرتاده الرواد صباحا. شرعت في التهام صفحات جريدتي التي تنتشلني من وحشة عزلتي وملل الفراغ. 
أخذت أتردد على مقهى كازابلانكا كل يوم.. لا أشتغل، أمضي طوال اليوم أجوب المطاعم والحانات وسط لندن، أطرق باب العمل.. مستعد أن أعمل أي شيء.. أغسل الصحون، أنظف الحيطان، أكنس البلاط، وأجفف الأرض بماء جافيل والكلور.. لا مانع لدي، المهم هو أن أشتغل وأكسب بعض المال.
في ظل هذا الوضع الصعب، كانت تغمرني سعادة عارمة أحيانا، ويستحوذ علي إحباط قاتل أحيانا أخرى، حتى توهمت نفسي مصابا بمرض ثنائي القطب ! ثمة حظ تعيس يطاردني في كل مكان. أخذ اليأس يستوطن نفسي، كلما مشيت أتعثر في طريقي سعيا إلى رزقي. أشعر وكأن كل أبواب لندن موصدة في وجهي. تعبت من مجاملات الناس ووعودهم الجوفاء.
كنت ألجأ إلى المقهى لأفرغ رأسي المثقل بالهموم والخيبات، كلما ضاقت بي الدنيا جالست صديقي عبدالله الجبلي لأستأنس بمروياته، حكاياته الساحرة تطربني، وتنفس عني كروبي وعسر حالي. كان مهاجرا ذكيا بارعا في السرد.. حكاياته لا تنتهي.. تشبه الأساطير، أحيانا كان يستخرجها من بطون التاريخ لتلامس الواقع بقوة.
تغير سلوكه تجاهي بمجرد ما علم أن أصلي يعود لقبيلة سوماتة الجبلية، وخصوصا لبلدة "الخربة الشناتفة". سرت كيمياء دافئة بيننا، وكأنني أعرفه منذ ردح من الزمن. كانت تربطه مصاهرة ببلدتنا، إحدى عماته كانت متزوجة برجل يدعى "بورباطا"، وهو إسم يجري على لسان ساكنة بلدة الخربة كثيرا. 
تقع بلدته في رأس جبل بني كرفط، فيما تقع بلدتي برأس جبل سوماتة. لم يكن يفصل بين بلدتينا سوى واد يدعى "ريغة". منذ ذلك الحين وهو يناديني ب"العموم" (إبن العم). كان مطلعا على تاريخ المنطقة، يعرف صناديد مدشر "الخربة" واحدا واحدا، الأحياء منهم والأموات. كان يردد على مسامعي بعض رجال بلدتي الأشاوس: (هاريز، أقيوق، الفضيل، الكومي، الكارجا، أحمد الفوقي....).
كان عبد الله صديقا حميما لعمي "علي" قبل هجرته إلى لندن، كانا يرعيان الغنم سويا في التلال وعند منحدر الجبل، يلتقيان عند ضفاف وادي ريغة لإرواء عطش غنمهما. عند الظهيرة تجدهما يجلسان فوق هضبة "تزار" ليتبادلا أطراف حديث الرعاة، يستظلان بشجرة "الدلم" فينهمكان في العزف على ناي الخزيران. تارة يعزفان معا، وتارة أخرى يعزف كل واحد بمفرده، فتطرب ألحانهم الشجية قطيع الغنم في مشهد خارق يجمع بين بساطة العيش وجمالية الحياة. 
لم يخطر على بال عبدالله أنه يوما ما سينتقل للعيش بعاصمة الضباب، فتنقلب حياته رأسا على عقب.. يشتغل في أرقى مستشفيات لندن، يركض وراء باصات حمراء ويتسلق قطارات المترو المزدحمة. 
ينظر صديقي عبدالله بعيدا، يشبك يديه، تعلو محياه ابتسامة حذرة وينطلق في حكايته: 
شيد الإسبان قاعدتهم العسكرية فوق هضبة "تزار"، واتخذوها منطلقا للهجوم على آخر معقل للمقاومة بقبيلة سوماتة الصامدة. في ماي من سنة 1927 كان الجميع قد استسلم بشمال المغرب، لم يتبق سوى بلدتين ثائرتين خارج الاحتلال هما "الخربة" و"بوحمصي". 
يتابع عبدالله سرده بتفاصيل مبهرة، حكاية تشد لها الأنفاس، أنصت إليه بشغف وذهول. أنا الآن أتلقى دروسا في التاريخ بمقهى كازابلانكا، أتعلم على يد مهاجر مغربي مقيم بحي بورطوبيلو وسط لندن. يقلب عبد الله صفحات تاريخ مشرف مهمل، إنه أستاذي في الحكي الشفهي. يحدثني بلكنة جبلية عن تاريخ سوماتة الباسلة، تاريخ بلدتي الشامخة، تاريخ لم أقرأه في الكتب ولم أدرسه في المعاهد. تاريخ غابر منسي..."

طنجة/ 7 شتنبر 2023