هنا ينتصب السؤال: ماذا يعمل هؤلاء الأطر؟ أين هي بصماتهم في تدبير المجال الحضري؟ ما الحلول التي قدمها المهندسون المدنيون لتحسين جودة الحياة بالعمالات وبالوسط الحضري؟ ما هي الاجتهادات التي صاغوها للجواب عن انتظارات السكان في النقل العمومي والتنقل والتدبير الإداري والإنارة العمومية والحدائق والأزبال وجودة العيش؟ ما هي الأجوبة التي قدمها المهندسون المعماريون للارتقاء بالمجال الحضري إلى مجال مؤنسن؟ ماهي التحفظات التي أبدوها أثناء وضع أختامهم على التجزئات والمشاريع السكنية الضخمة لتوفير ملاعب وفضاءات وساحات للنساء والأطفال والعجزة؟ ما هي ابتكاراتهم لتخفيض كلفة إنتاج الوحدات السكنية؟ ما هي الحلول التي قدمها البياطرة لتأمين صحة المستهلك وتجنيبه مخاطر ما يعرض عليه من لحوم فاسدة وقشدة أو زبدة تجاوز تاريخ صلاحيتها؟ ما هي الإضافات التي حملها الأطباء بأقسام حفظ الصحة لتخفيف تحملات المصابين بداء السكري بمختلف الجماعات المحلية؟ ما هي تصوراتهم لإنقاذ هذه الجماعة أو تلك من خطورة التعفنات أو ارتفاع وفيات الأطفال أو الإصابة بالشلل وداء السل؟ ما هي السيناريوهات التي ابتدعها وكلاء المداخيل لتحسين طرق استخلاص مداخيل الجماعات وتوسيع الوعاء الضريبي وتحيين إحصاء، الخاضعين للتكليف الضريبي؟ وما هي حصيلة أدائهم لإحداث قطيعة مع الطرق الكلاسيكية في تدبير الميزانية؟ ما هو دور المتصرفين لمراقبة حسن أداء الصفقات والقيام بدراسات تحليلية لها ومعرفة الكلفة الزمنية لكل مشروع؟ وما هي البدائل التي قدموها لتسريع وتيرة إنجاز المشاريع أو تبسيط المساطر وإعمالها؟ ما هي الخرائط التي وضعها مهندسو المناظر لتحسين حدائقنا وتشجير شوارعنا؟ ما هي الحلول التي قدموها لضمان تدبير أمثل للمساحات الخضراء؟ ما هو برنامجهم المسطر بخصوص تشذيب الأشجار واختيار أنواعها حسب حاجيات كل مديـنة وحسب خصوصياتها (منطقة قاحلة - منطقة جبلية - منطقة صناعية - منطقة سياحية ساحلية... إلخ)؟ ما هو حجم تدخلاتهم لتسطير برنامج أخضر يشمل تراب الجماعة التي يتقاضون منها أجورهم؟ ما هي القيمة المضافة للأطر الإدارية العاملة بالأقسام القانونية للعمالات والجماعات لتتبع الدعاوى المرفوعة ضد المدن بالمحاكم؟ لماذا لم تهتز ضمائرهم في كل الدعاوى التي خسرتها المدن بالمحاكم؟ هل تعوزهم الكفاءة العلمية للإحاطة بالمساطر والشغف بتتبع الملف في كل أطوار التقاضي لدرجة أن معظم الجماعات تخسر كل القضايا بالمحكمة؟
أكيد أن السيادة تعود إلى المنتخبين، أي إلى المجلس (الجهوي أو الإقليمي أو الحضري أو المجلس الإداري للوكالة الحضرية)، ولكن هل اللوم يتحمله الولاة والعمال والمنتخبون لوحدهم؟ ألا يتحمل جزء من الأطر العليا بالجماعات الترابية وبالوكالات الحضرية، جزءا من المسؤولية؟ وإذا كانت المسؤولية تقع (في نسبة معينة) على عاتق بعض الأطر، ما هو السبب الذي يجعل المغرب لا يستفيد من هذه الطاقات الإدارية والتقنية الهائلة التي تلتهم مابين ثلث إلى نصف ميزانية الجماعات الترابية كل عام؟
فمن أصل ثلاثة موظفين مدنيين بالدولة، نجد موظفا بالجماعات الترابية، إذ يمثل هؤلاء حوالى 150 ألف موظف (القطاعات المدنية الحكومية توظف 438.917 فردا). وتمثل الأطر بالإدارة الجماعية حوالي 8% من المجموع العام (موزعة على الأطر التقنية: مهندسو دولة -أطباء - بياطرة - إعلامياتيون... إلخ) بـ 3163 إطارا (2,21%) والأطر الإدارية (كتاب عامون - متصرفون ممتازون - متصرفون بـ 7232 إطارا (%5).
هذا الجيش من الأطر تضاف له فــيــالــق أخرى من الأطر المتوسطة البالغة حوالي 22.900 فردا. أي إذا جمعنا الصنفين نحصل على معدل 24% من الأطر العاملة في الجماعات الترابية بمختلف أصنافها. وتبلغ الطامة ذروتها إذا علمنا أن كل درهم يتم ضخه في الاستثمارات العمومية نجد بأن الجماعات تساهم بثلث الدرهم. فهل المغرب (وهو البلد المصنف في الرتبة 126 عالميا في سلم التخلف حسب مقاييس التنمية البشرية للأمم المتحدة)، يحق له أن يتمادى في شل أطر الجماعات الترابية لتدبير «ثلث الدرهم بما يخدم التنمية المحلية؟
يكفي أن يجلس المرء في عتبة أي معهد أو كلية أو مدرسة عليا بالمغرب، ليسأل الطلبة المتخرجين: هل ترغبون في العمل بالجماعات الترابية؟ فبالتأكيد سيحصل على أجوبة بالنفي، لسبب بسيط يتجلى في أن الوظيفة الجماعية غير مغرية ولا تفتح شهية أى إطار بأن يختار الانتحار بأسلاك الإدارة الجماعية.
صحيح أن الأطر بالجماعات الترابية ظلوا لسنوات بمثابة السلالة الأكثر احتقارا في سنوات الرصاص، لكن ما هو المبرر لتبقى هذه السلالة محتقرة اليوم؟ ما هو السبب الذي يحول دون عودة التوهج للوظيفة الجماعية؟ لماذا تتلكأ السلطات العمومية في فتح ورش إصلاح الإدارة الجماعية لرد الاعتبار لهؤلاء الجنود المطالبين بالسهر على جودة الحياة اليومية لـ 34 مليون نسمة؟
فالمغرب من أكثر البلدان تخلفا في نسبة تأطير الجماعات مقارنة مع الدول المجاورة (حتى لا نقارنه بالدول الأوربية!) حيث لا تتعدى 2,22 إطار لكل ألف مواطن. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن الأطر العاملة بسلك الجماعات الترابية لن تبقى توصف فقط بكونها «سلالة محتقرة» بل ستصبح «سلالة في طور الانقراض».