للقياس وحدتان: الأولى، هي وحدة قياس زمنية بدأت مع تربع الملك محمد السادس على العرش، و بعد رحيل والده المرحوم الحسن الثاني، والثانية، وهي أكثر ديمومة، تنطلق مع إعلان مناسبة عيد العرش نفسها، في الثلاثينيات من القرن الماضي مناسبة وطنية لإثبات الوجود والهوية والسيادة. كان عيد العرش، بحد ذاته، تموقعا واختيارا محفوفا بالمخاطرة بالنسبة للملكية نفسها، لأنه ارتبط بتشييد الرابط بين العرش المغربي وبين الحركة الوطنية، وهو ما كان ليتم بدون خيارات واضحة إلى جانب القوى الشعبية وقوى مناهضة الاستعمار. وهو منعطف، في حد ذاته، إذا قورن بما سبقه . منذ 1912، كانت الملكية قد دخلت في دائرة النفي الداخلي، فعندما قبل الملك مولاي حفيظ عقد الحماية، كان في الوقت نفسه يقبل بأن تنتهي السلطنة (لم تكن هناك ملكية بعد) وينتهي السلطان معها، وتصرف المغاربة، منذ تلك الفترة على أساس أنهم لا يملكون سلطانا. واندلعت فصول في التاريخ المغربي، كانت مراكزها وأماكن انفجارها خارج دائرة الدولة المركزية وخارج السلطنة. لا داعي للتذكير بكل تفاصيل تلك الفترة. مع مجيء محمد الخامس، وانحيازه الواضح، بعد صراع بين المحيط القريب، الذي تشكله الحماية ورجالاتها وأعوان نفوذها، ونخبها وطرقييها.. الخ والمحيط الشعبي الذي كان تقرب من الملك الراحل في ظروف تشبه التسلل إلى مركز عسكري أو نووي اليوم. لم تكن الملكية المغربية، وقتها تستند إلى شعبيتها التاريخية فقط، وهي موجودة حتى في الذين أرادوا خيانة العرش أو خانوه، فعلا، من داخل الوسط الملكي ومن داخل الشرعية نفسها، (بن عرفة نموذجا واضحا)، بل كانت الشرعية الملكية تجدد نفسها بعقد وطني مشترك، ثم بشرعية نضالية دفعت المغفور له محمد الخامس إلى الانحياز الخطر والرهيب إلى الاستقلال، من خلال تبني الحركة الوطنية في نضاليتها وشرعيتها وتاريخيتهاو مطالبها في الدفاع عن الاستقلال. إعادة بناء الملكية على شرعية نضالية، مناهضة للاستعمار، والتي كلفت الأسرة الملكية النفي والمحاصرة والألغام من بعد، تجسد من خلال ميثاق حول طبيعة الدولة التي سيعرفها المغرب في ما بعد الاستقلال، وهو ما تم تدبيجه في وثيقة عريضة المطالبة بهذا الاستقلال وكرستها مقولة الدولة الديموقراطية والملكية الدستورية الديموقراطية، كسقف لتنظيم السلط. وكانت معادلة الشرعية والسيادة، مقابل العقد الوطني الجامع هي التي تحكمت في مفاوضات الاستقلال، حيث تم بموجبها إصرار الملكية على العريضة، وأصرت الحركة الوطنية على عودة السيادة قبل أي حديث عن استقلال البلاد، وهو ما دفع إدغار فور، المسؤول عن الحكومة الفرنسية إلى أن يخاطب الفقيد عبد الرحيم بوعبيد بالقول: كنت أعتقد بأن عبادة الأصنام موجودة في إفريقيا السوداء فقط، وليس في شمال أفريقيا أيضا،( حسب ما رواه محمد بوستة أطال الله عمره ). في الفترة التي تلت رحيل محمد الخامس رحمه الله، تكرس نموذج آخر من الملكية، ذات الحنين إلى السلطنة، مع المرحوم الحسن الثاني (انظر كتاب عبد الله العروي الحسن الثاني والمغرب)، وتقوقع المغرب، على مستوى اختيارات الدولة في منحى مغاير للإصلاح أو التوجه نحو تنزيل عقد الوطنية المناضلة. ويمكن من هذه الزاوية أن نحكم على أن ملكية محمد السادس حققت إنجازين تاريخيين كبيرين، في قياس وحدة القرب مع الحسن الثاني رحمه الله، اذ أعاد الملك محمد السادس منطق الإصلاح إلى الدولة، بعد أن ظل جامدا طيلة أربعة عقود. وكانت هواجس سابقه هي تكريس الدولة القوية والسلطان غير المتنازع حوله، الشئ الذي جمد الدولة في علاقات توتر بين مكونات الحركة الوطنية، ثم الحركة الديموقراطية والتعددية في البلاد. ومن هذه الزاوية، يمكن أن نفهم السنوات العجاف التي أدت إلى السكتة القلبية اقتصاديا واجتماعيا، ثم إلى تراكم ملفات العجز السياسي الكبير والعجز المجتمعي ( سنوات الرصاص، الانغلاق الثقافي، الأحادية المؤسساتية، التناقض المجالي، التفاوت، التقديس النظامي.. الخ). وهو ما يفتح هنا القياس مع المرحلة السابقة على ما تحقق في العهد الجديد، فقد حقق عهد الملك الجديد في ظرف 15 سنة انفتاحا في ملفات وقضايا ظلت عالقة مدة 40 سنة، ومنها ما سبق ذلك بسنوات. وتحولت طبيعة الحكم من ملكية مقدسة، إلى ملكية برلمانية دستورية، وهو ما يحيلنا إلى المقارنة، في طبيعة الحكم إلى الملكية في عهد التعاقد الوطني بين الملكية والقوى الحية، ويمكن القول بهذا الصدد أن السقف الذي رسمه هذا التعاقد تم تجاوزه بكثير، قانونيا ونصيا مع دستور 2011، وبلغة أوضح: تم تجاوز سقف وثيقة الاستقلال. وجدد الملك محمد السادس، شرعية الملكية، نضاليا،(في دائرة رابعة تنضاف إلى الشرعية التاريخية، والدينية و الدستورية ) من خلال النفس الكفاحي للكثير من قراراته، التي فتحت للمغرب آفاقا جديدة وواسعة، من خلال العمل على تجسيد كل أدبيات وشعارات القوى المناضلة، وعلى رأسها الاختيار الديموقراطي والحداثي الواضح. ما يمكن أن يحتفظ به المناضل، والديموقراطي الوطني والمؤرخ في نفس الوقت هو أن ملك المغرب، اختار في منعطف صعب، تهاوت فيه الأنظمة وتعطلت فيه الأوطان، أن يموقع الدولة في مجرى التاريخ الذي يسير نحو الأمام. وهذا بحد ذاته قاعدة للحكم على التوجه العام للبلاد. وهو لا يمكن أن نصنف الحديث عنه أو الإشارة إليه بالخطاب الاحتفائي أو التقريري، إذا ما استحضرنا الاختيارات التي تنفتح دوما أمام من يرث العرش في فترات بمثل هذه الصعوبات، ومنها خيارات تكريس السلطوية والهروب إلى الأمام أو الاحتماء بالآلة القامعة.. من هاتين الزاويتين ( إدراج منطق الإصلاح بشكل استراتيجي في البلاد وتجديد وتعزيز الشرعية النضالية للملكية) يمكن أن نستخلص أن الملك محمد السادس وضع الدولة والبلاد في مسار تقدمي، يدفع إلى الإصلاح، ويفسر في جزء كبير التكلسات والمقاومة التي تنتفض قواها كلما اتضح التوجه نحو العالم المعاصر.. الأجواء نفسها التي ترافق الاحتفالات، تشهد بأن أشياء جوهرية تغيرت في ثقافة التعاطي المغربي مع هذا الحدث السياسي الذي يرتقبه الجميع، فلم تعد الفترة للتمجيد أو للاحتماء بلغة الخشب، بل أصبح كل شيء مرتبطا بالذكرى محط نقاش عمومي، تختلف درجات التحرر والتخشب فيه، لكنه نقاش يمس الجوهر كما يمس المظهر. لقد تقرر، في لحظة تفكير جماعية في منظومة الدولة، إسقاط القداسة عن الملكية وعن شخص الملك، بإرادة حرة وسيادية ومتحررة من لدن الجالس على العرش، ثم أدرجت المجهودات الملكية في منظومة الإصلاح الكبرى، التي تجعل البلاد قادرة على ضمان استقرارها كديموقراطية ناشئة، وليس ككيان يبحث عن توازنات متقلبة للبقاء، في محيط محكوم بالنزاعات وفي زاوية إفريقية تعيش تحت ظلال البنادق..، وتحددت قواعد الحكم على التجربة سواء بالنسبة لما تحقق أو بالنسبة لما تم التعاقد حوله أو بالنسبة لما يتطلبه الوجود العصري اليوم. ومن حسن حظنا أن معايير المقارنة لم تعد تستدرجنا إلى الدوائر القريبة منا، بل أصبحنا نحاكم أنفسنا على قاعدة المعايير الدولية والمنجز البشري اليوم (حقوق الإنسان، الحداثة الثقافية، المنافسة، الشفافية ..). وسيكون من الأنجع للملاحظ الوطني، أيا كان موقعه، عندما يعلن انتماءه إلى حركة المستقبل أن يضع التفكير في الملكية في سياق يضعها حاليا في محيط يتميز بالنهوض النكوصي للمحافظة، بكل تلاوينها، القبلية والعقائدية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وهي إمكانية، أيضا، تشي بالتخوف، إذا ما علمنا أن تاريخ الإصلاح في البلاد، كثيرا ما وضع الملوك الإصلاحيين (الحسن الأول، انظر ما كتبه الشهيد المهدي) في بؤرة هجوم من طرف المحيط الرجعي، وبالتالي تكون تقوية الرجعية داخل السلم الاجتماعي مقدمة لتبرير أو تكريس الرجعية على مستوى الدولة. وهو ما يفرض من جهة على المجموعة الوطنية، حزبيا ومدنيا، التموقع الفاعل والايجابي والمفيد، لدعم التطورات التي تم تسجيلها، لإعطاء دفعة مستقرة و دائمة للتطور لتجاوز كل ما يعرقل المسيرة، والنمو ويهدد البلاد بالتراجع.