استطاع المخرج المسرحي جواد الأسدي أن يخرج البروفات المسرحية عن صمتها و يدخل القارئ إلى الكواليس المسرحية ليتعرف و يستنبط خبايا ما وراء الخشبة من خلال كتابه ''المسرح جنتي'' الصادر عن دار الآداب سنة 2008 وهو من الكتب النادرة في عالمنا العربي التي قد تطرقت إلى هذا النوع من المواضيع، تلك التي تأخذنا إلى أجواء البروفات وتأسرنا بجماليتها باعتبارها القاعدة الأساس لكل عرض مسرحي.
تميز جواد الأسدي بصفته مخرجا يتمتع برؤية خاصة، لقد روض النص باعثا فيه الحيوية الضامرة بين ثناياه، مضيئا بنوره عتمة الخشبة العربية، التي أصبحت تستعدي الفن الجاد والملتزم، تتركك عوالمه المسرحية تسبح في خضم تجارب عدة اكتسبها عبر سنوات من العمل المضني الشاق، ليخرج عروضا تتسم بالجمالية الفنية والرؤية الثاقبة المسيطرة على أجواء عروضه. تميزت رؤيته الإخراجية بتعدد الدلالات التعبيرية، محاكية للمسرح الأوربي متجردة من الغطاء التقليدي النمطي الذي ميز في وقت من الأوقات عروض الشرق العربي، يتجلى لنا ذلك بوضوح من خلال بروفات مسرحية ''المصطبة'' أمام المبدع الكبير بدري حسون وقد عبر عن ذلك بقوله « …لكن في هذه السنوات الطويلة التي أضنته ورفعته أيضا، اكتسبت أنا خلالها كثيرا من العلاقات ومعايير جمالية لعروض مسرحية أوربية، وأساليب فنية حديثة، وإني صرت جديرا الآن أن أقف أمام أستاذي الذي هو أنت، أحسست بأنه مرتبك جدا من فكرة أن يكون هو على الخشبة كممثل وأن أكون أنا كمخرج صالة المسرح، وعلي أن أقوم بواجبي كمخرج، كان لابد أن أتدخل في طريقة قراءته التي أحببتها منذ عشرين عاما، لكن الآن لم تعد تمسسني، إنها الطريقة المنبرية العراقية المبنية على التفخيم الصوتي المجلجل، والتي تناسب مرحلة ما من التمثيل، لكن الأداء الحديث يحتاج تهميش هذه الفخامة وتكريس الأداء الطبيعي، الإنساني، الحياتي... » ( صفحة 125،153)
يحتوي الكتاب على عشرة أقسام تلتحم فيما بينها لتلامس الواقع المسرحي العام و تناقش قضاياه المتشعبة التي تدور في هذا الفلك . وهو عبارة عن سيرة ذاتية للمخرج رغم أنه لم يتخذ الشكل التقليدي لكتابة السير، إذ يجمع بين عالمين: عالم البروفات وخصوصيتها وعالم الكاتب الشخصي وما يزخر به من تجارب وذكريات ومواقف، عبر عنها بأسلوبه الخاص الأقرب إلى السرد الروائي. كما يقربنا بشكل أو بآخر من أشخاص تركوا بصماتهم الراسخة على الساحة الفنية العربية أمثال الممثلين الكبيرين بدري حسون و فايز قزق والكاتب سعد الله ونوس وغيرهم، إذ نقل إلينا الصورة الخفية لعوالمهم داخل البروفات ومسار العلاقات الشخصية بينه وبينهم قبل العرض .
يقول جواد الأسدي «بحثت عن طعم المسرح و تتبعت آثاره هناك، بالعودة إلى ذلك الممر النوراني الساطع الذي يقذفني إلى إعادة العوم في ينبوع الأول، المكان المفتقد.» من هنا نراه يحلق بنا في بداية كتابه فيما نشاركه هواجسه ونستذكر معه الأمكنة الأولى وتهيجها، ونتذكر معه تفاصيل ويوميات أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد لينقلنا إلى مقهى أم كلثوم في ساحة الميدان، حيث ننطلق معه صوب أماكن أخرى، لنصل أخيرا إلى مسرح بغداد كمحطة من المحطات الأولى التي بلورة تجاربه الإخراجية نتعرف من خلالها على صراع خفي بين فنانين مسرحيين عراقيين، صراع جيلين.
تتكامل لنا الصورة وتفصح لنا على المقارنات المكنونة داخل الكتاب بين بروفات المخرج داخل الوطن العربي و بين بروفاته خارجه وبالتحديد أوربا حيث يأخذ بروفاته إليها ليعدم المكان و اللغة وتصبح العروض قابلة للتحول ككائن برمائي يتنفس أينما حل وارتحل، ويتغلغل الجسد ليختزل المسرح كأداة للتعبير بعيدا عن اللغة كأداة للتواصل، وتحفل مسيرة جواد الأسدي بهذا النوع من التجارب وتبلغ ذروتها في بروفات مسرحية المملوك جابر لسعد الله ونوس في فالنسيا مع فرقة مسرح ''لاكاسولا'' حيث يتحدث عنها المخرج بإسهاب وتفصيل. «دون أدنى شك، ثمة متعة أصبحت أكيدة، متعة تكرسها بروفاتي على مسرحية جابر على فالنسيا. لقد حلمت كثيرا بخوض تجربة شبيهة بهذه التي أخوضها، ليس لأني أريد الإبحار في قلب مغامرة في سفر ملغوم بالغموض، بل رغبة مني في إضافة نكهة جديدة إلى عملي المسرحي واختبار قدرتي على خرق الرتابة...»صفحة78. و ينطلق الكاتب في سرد أجواء بروفاته وعلاقته بأعضاء الفرقة في فالنسيا و الصعوبات المحيطة بهذه الأجواء انطلاقا عفويا.
شكل جواد الأسدي مع سعد الله ونوس ثنائيا مهما في الارتقاء بالفن المسرحي العربي و خلق سمفونية متوازية النوتات في العمل الملتزم الذي تحتمه الظرفية المتسمة بالفراغ واللاشيئية. عملا معا على خلق كينونة متفردة تتجلى في النص أولا ثم العرض ثانيا، معلنين عن ثورة أصابت شظاياها كبد الحقيقة، الحقيقة السياسية والقومية والاجتماعية و...أفرد الأسدي في كتابه العديد من الفقرات لسعد الله ونوس إما بالاشارة أو بالتفصيل ونجد في الصفحة 138 شهادة في حق سعدالله ونوس على لسان الأسدي حيث يقول «...ما أود قوله إن سعد الله قد تحول إلى ظاهرة عربية متفردة في بحثه الشاق و المستمر بحثا عن ماهية المسرح ...». من بين الأعمال التي جمعت المبدعين معا رأس المملوك جابر والاغتصاب وغيرهما .
بعد سبعة وعشرين سنة يكتشف جواد الأسدي بغداد أخرى يصفها لنا في كتابه بحزن شديد شبيه بالبكاء الصامت على الأطلال حيث يصفها بعاصمة جروحه، إذ نكتشف معه حجم الدمار الذي حل بالمدينة، و لم تسلم منه أكاديمية الفنون الجميلة التي حملت أحلامه وأحلام أجيال من المبدعين العراقيين وإلى هذا يشير بقوله«ياإلهي، كأنني لم أدرس في هذه الأكاديمية، ولم أعرفها يوما، أحسست بالحزن والمرارة، لأن جدران الأكاديمية والمبنى نفسه صار ملطخا، رسوم رثة وبدائية، وكومة كبيرة من الأسلاك المحاطة بالبوابات، عادت بي الذاكرة إلى سنوات طويلة مضت، عندما كانت قاعات ومسارح هذه الأكاديمية مرتعا لأحلامنا وطموحاتنا...»(صفحة159)
حاول جواد الأسدي في كتابه الرد على من وجهوا رصاصهم و قراءتهم المستعجلة إلى نص مسرحية حمام بغدادي باعتبار كاتبه الذي هو المخرج نفسه يضع الشخصية العراقية في درجات عالية من الانحطاط، ظهر سوء الفهم هذا عند عرض المسرحية على عدد من المسارح العربية لكن في الحقيقة حسب الأسدي هو تعرية للأنظمة قبل وبعد الاحتلال، نجد تفصيلا لهذا الموضوع في الصفحة 200 من الكتاب.
الكتاب بشكل عام إضافة جديدة للخزانة العربية التي تفتقر لهذا النوع من الكتب وقد يساعد في إضاءة الذاكرة الثقافية المسرحية العربية والتعرف بشكل تفصيلي على الخطط الفنية للمخرج في التعامل مع البروفات كعمل مقدس يستوجب طقوسا معينة تتخللها عمليات مسترسلة من البناء و الهدم.