من الملاحظات التي لا تخطئها العين، أن جل التعاليق على النصوص الابداعية في فضاءات التواصل، لا تعدو كونها عبارات ثناء وتحفيز ومجاملة، وهذا في تقديري لا يُلام عليه، إنما المؤاخذة على تعاليق تتجاهل النص وتلهو بصاحبه،إما إطراء وثناء، أو وعظا وارشادا، تماما كأن يدخل زائر إلى معرض فني، فيدير ظهره للوحة ويطيل النظر الى الرسام.
والأدهى من ذلك، أن بعض هذه التعاليق يُغرق في تشريح المضمون موضوعا كان أوفكرة أو موقفا، مُهمِلًا الشكلَ الفني الذي به يصبح الفن فنا ومن خلاله يرقى الموضوع إلى التأثير في المتلقي واستدراجه ليتفاعل مع المنجز الإبداعي ويتذوقه.
كأنما ثقافتنا القرائية لم تتخلص بعدُ من الاعتقاد بأن المضمون معطىً سابقٌ على الصياغة الفنية، وأن الشكل مجرد وعاء يُفرغ فيه هذا المضمون مُزخرِفًا لخارجه.
إن ثنائية الشكل والمضمون قديمة قدم نشأة النقد الأدبي مع الجاحظ وابن قتيبة والجرجاني وغيرهم ، وإن وردت بمسميات مختلفة من قبيل:
(اللفظ والمعنى) و(المبنى والمعنى) وغيرها.
وتفاديا للزج بالقراء في ترف نظري واصطلاحي لا دراية لهم به، وتجنبا للتذكير بحجج أنصار المضمون أو بيان تطور مناصري الشكل بمن فيهم الشكلانيون الجدد.
نكتفي بالاقتناع بأن بين الشكل والمضمون علاقة دينامية تتسم بالتفاعل وليس بالتتابع، فالنص الشعري مثلا، وحدة متكاملة، أشبه ما تكون بقطعة نقدية قيمتها لا تقتصر على المادة التي صُنعَت منها ولا على الأرقام والرسوم والرموز التي التي طُبِعت على وجهيها، ولكن قيمتها في كل ذلك منصهرا مجتمعا في آن.
ومادام النص الشعري وحدة متكاملة، فلا سبيل إلى المرور إلى المعنى من إلا من خلال الشكل ولا قيمة للشكل إلا باغناء المعنى والارتقاء به.
إن معجم النص الشعري وبلاغته وصوره وخياله والعاطفة الكامنة في ثناياه، وموسيقاه وايقاعه هي العناصر التي تُشيِّد المعنى متكاملةً متناسقةً وتمنحه الحياة، وتلقحه بالقابلية لإغراء المتلقي، وتوريطه في عملية مطاردة للمعنى الهارب باستمرار.
ولتأكيد الرأي أعلاه، ننطلق من نص من نصوص المبدعة المتميزة شعرا ونثرا د.بلقيس بابو، نشرته مؤخرا.
ولفهم معانيه وادراك مضمونه فكرةً ورؤيةً وموقفًا، نَعْبُرُ إليه من خلال الشكل الفني، ولو من خلال وقفات قصيرة عند عناصر الشكل وهي تتفاعل لتوليد البعدين الدلالي والجمالي.
حقيقة، إن التجارب الابداعية المتميزة على قلتها، لم تَعُدْ تَحْظى باهتمام نقدي جاد ونزيه، كأنما النقد بات ضحية جفاف طويلِ الأمدِ موازٍ للجفاف الطبيعي، فخلا الجو بفعل ذلك للشناقة والمطبلين ومروجي خطابات التزلف الجوفاء.
وأخص من بين هذه التجارب المتميزة، الأصواتَ النسائيةَ اللواتي تأبى الكثيراتُ منهن التهافتَ على المنابر الاشهارية، إما وعيا بحقيقتها أو إيمانا بمبدإ أولدواعٍ خاصة.
من هذه التجارب النسائية المتميزة تجربة د.بلقيس بابو، التي (في حدود معرفتي) تكتفي بحضور لقاءات ذات مصداقية على قلتها، وتفضل التواصل مع قرائها، عبر المنابر الاعلامية ومنصات التواصل، مع أن نصوصها - نثرا كانت أو شعرا- تنعم بجودة فنية جديرة بأن تستوقف القارئ، إن عزَّ وجود الناقد النزيه.
وما قرأت للدكتورة بلقيس لحد الآن، وَلَّدَ لدي يقينا بأنها تملك قدرة على الاستعمال السليقي للعربية الفصيحة على الرغم من أن تكوينها العلمي كان بلغة أجنبية والتهم الحيز الأوفر من مسيرتها الدراسية.
فقراءة نصوصها، بل حتى مجرد الاصغاء إلى كلامها في مقامات التواصل العادي ، تبرز بوضوح كيف أنها لا تجهد نفسها في البحث عن لفظ أو في صياغة تركيب، فاللغة تنقاد لها طيعة لاشية فيها من منظور ضوابط اللسان العربي.
ولغتها تكسوها نكهة شاعرية حتى في النص السردي، مما يفضي إلى القول بأن شاعريتها نتاج موهبة فطرية صقلتها عبر الممارسة والتثقيف الذاتي، وليست صناعة مكتسبة عبر التقليد والنقل كما هو شائع عند كثيرين.
وما الاستدلال على ذلك ببعيد ، فيكفي أن نأخذ بالصدفة آخر منجز إبداعي لها عنونته ب(شرود)، أي بمصدر شرد الذي يحمل معنى التيهان وغياب التركيز أو الاستقرار على رأي أو فكرة أو قرار.
وقد وردَ نكرة للدلالة على أن المقصود ليس مطلق الشرود، وإنما هو شرود لحظة مخصوصة عابرة.
قدمت المبدعة نصها في هيكل مترابطةٍ أجزاؤه يوحدها الموضوع، وكأنما هو عبارة عن مقطع وصفي لحالة شرود، من زوايا مختلفة، تربطها وحدة الموصوف وإن تعددت زوايا الوصف وصيغه.
وذلك بتوظيف معجم شعري حافل بالايحاء، كل لفظة فيه شحنة من المعنى الذي لا يمكن أن يُؤدَّى إلا بها، فألفاظ من قبيل:(نزيف/ وحي/ جناح..الخ)، لايمكن استبدالها بغيرها لاغراء المتلقي باستبطان أعماق الذات الشاعرة، ورصد ما يغلي بداخلها من مشاعر وعواطف ورؤى، ذلك لأنها ألفاظٌ نزحت من حقولها المعجمية الأصلية ووظفت توظيفا انزياحيا، يمنحها طاقة تأثيرية قوية تجتذب المتلقي وتورطه في سفر تفاعلي مع النص، من خلال أنسنة الجماد وتجسيد المجرد (يثير/ يعارض/ يفاوض/أوراق حائرة..)
وبذلك يشكل الايحاء اللفظي أولى لبنات تشييد الصورة الشعرية، التي تتعمق وتتركب ، بتوالي اللقطات البيانية مُمَثّلةً خاصة في المجاز والاستعارة( نزيف مدادي/ حلم لقيط/ رسائلنا الحزينة..)، وتكثيف الصورة بدون غلو، يحررها من التنميق المتكلف والصنعة المقصودة لذاتها، ويمنحها متعة وظيفية تكسب المعنى عمقا وجمالية في آن.
بل إن تجاور الصور المتقابلة، يغذي الايقاع الداخلي ويغنيه، إما من خلال الطباق( لطف/ حزم) أو المقابلة ( غيمة للعام الماضي/غيمة للعام الآتي)، بالإضافة إلى جرس موسيقي يسري في ثنايا النص من خلال التكرار الصوتي( الدال/ الحاء/ السين) والتجانس اللفظي:(مدادي/ عنادي- يعارض/ يفاوض- القلق/ الغرق)...
وأكاد أجزم بأن شاعرية الأخت د.بلقيس بابو، والتي تتسم بها لغتها شعرا (وحتى نثرا كما في النصوص السردية التي قرأت لها)، يميزها حضور لافت للموسيقى والايقاع
من خلال عناصر العروض كالتفعيلة والقافية والروي( ليس في قصائدها العمودية فقط)، ومكونات الايقاع الداخلي،
من ذلك تفعيلات المتدارك والخبب، ربما لتشاركهما في اللحن نفسه، حتى أنك تخال بعض عباراتها إيقاعا لركض فرس ، يتحرك حركة خفيفة إيقاعية، وهذا ما يجعل هذه العبارات أو الجمل أحيانا، مليئة بالتوازي، متساوية الهياكل( بلطف يعارض= بحزم يفاوض).
ومما يرجح كون الاهتمام بالايقاع في شعرها نابعا من موقف فني، وليس لهدف تزييني ، تَميُّزُها في الالقاء أداء وصوتا وتنغيما وحركات..
واختصارا لما سبق، فإن قيمة المضمون، من خلال التجربة الإبداعية ل د.بلقيس بابو، إنما يكتسبها من جمالية الشعر وليس من الموضوع ذاته، إذ كان يكفيها أن ينتابها في لحظة ما شعورٌ بالحيرة والشرود، لتبدع لوحة وصفية يتحول من خلالها احساس تافه عابر إلى عمل فني ملون بالكلمات الموحية والصور المؤثرة والأنغام العذبة الساحرة، التي تكسبه تأثيرا وجاذبية.
وما النص الذي استشهدنا به إلا دليل آخر على أن الشعر فنٌّ قبل كل شيء،من منظور المبدعة د.بلقيس بابو، الذي جسدته منجزاتها، أي فنّ له مقوماته وسحره الخاص وليس مجرد خطابة تعج بالثرثرة الجوفاء أو بالصنعة التي تتقنع وراء مساحيق بلا نكهة ولا تأثير.
علي درويش، مؤطر تربوي ومهتم بقضايا اللغة والنقد الأدبي