كشف أحمد أوالطالب أستاذ باحث في الجغرافيا البيئية ما يحصل في حرائق الجنوب الغربي من المغرب، وما تخلفه من تأثيرات على الاقتصاد الواحي وعلى التنمية المحلية لساكنة واحات طاطا. ويوضح الباحث أوطالب في هاته الورق، التي توصلت بها "أنفاس بريس"، ما الذي ينبغي فعله للتقليص من حدة ما يحصل من حرائق وحرائق، ويقترح مداخل للحل في مستوياته المؤسساتية والتواصلية والتنظيمية والقانونية. وفي ما يلي ورقة الباحث في الجغرافيا البيئية أحمد أوطالب لـ"أنفاس بريس".
تشكل الواحات بالجنوب الشرقي للمغرب تراثا حضاريا متأصلا في العمق التاريخي بمنطقة شمال إفريقيا وجزءا هاما من الذاكرة الشعبية المشتركة، ورافدا من روافد التنمية الاقتصادية سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الوطني. فالواحات بالمغرب تمتد على شكل شريط عرضي بأزيد من 16% من التراب الوطني (طريق الواحات فكيك- كلميم) ويستوطن بها أزيد من 5% من ساكنة المغرب، وتساهم بقسط وافر في الناتج الداخلي الخام للقطاع الفلاحي، ويشغل اقتصاد الواحات أزيد من 70% من الساكنة المحلية. كما يعد المنتج الأول للثروة المحلية.
إلا أن توالي ظاهرة الحرائق في السنوات الأخيرة وبشكل مسترسل ومقلق للغاية، أثر بشكل سلبي على اقتصاد الواحات الهش في بنيته الأصلية.
وتعد ظاهرة الحرائق بالمجالات الواحية بالجنوب الشرقي للمغرب من الظواهر التي باتت تؤرق بال جميع الفاعلين في الحقل التنموي على المستوى المحلي، إذ أن مشاهد الحرائق المتتالية بالواحات تكاد تكون هي السائدة والمألوفة في الحياة اليومية لساكنة الواحات.
وتعد الحرائق من المخاطر الكبرى التي باتت تهدد بشكل صريح وغير مسبوق مسألة استدامة المنظومات البيئية الواحية بالمناطق الجافة بالمغرب والتي عمرت لقرون عدة، كما تحد الحرائق المتتالية من تحقيق إقلاع اقتصادي مستدام يمكن الساكنة المحلية من الاستقرار ومن سد حاجياتها الأساسية من الموارد المجالية الحيوية التي يتيحها الإقتصاد الأخضر للواحات.
لكن ما يلاحظ خلال العقدين الأخيرين هو الوتيرة المتزايدة وغير المألوفة للحرائق بهذه الأوساط، خاصة في فصل الصيف من كل سنة، الذي ترتفع فيه درجة الحرارة بشكل كبير مصحوبة برياح شرقية (الشركي)، الشيء الذي يصعب من مهام فرق الإطفاء.
إذن فماهي أهم العوامل المسببة للحرائق بالواحات؟ هل يمكن الاكتفاء فقط بالعوامل المرتبطة بالأحوال الجوية خلال فصل الصيف أم أن هناك عوامل أخرى قد تساهم في اندلاع الحرائق خاصة العوامل ذات الصلة بأنشطة وسلوكات الإنسان المحلي؟ وماهي بعض الإقتراحات الممكنة لحماية الواحات من الحرائق المتكررة؟
1 تعددت العوامل المساهمة في اندلاع الحرائق بالواحات:
أ- العوامل الطبيعية
يمكن اعتبار العوامل الطبيعية بمثابة أسباب غير مباشرة لاندلاع الحرائق، وتتجلى أساسا في الارتفاع الكبير لدرجة الحرارة في فصل الصيف في معظم مناطق المغرب، خاصة في واحات الجنوب الشرقي للمغرب، حيث تزيد درجة الحرارة في بعض الأحيان عن 48 درجة مئوية، كما هو الشأن بالنسبة لشهر يوليوز 2023، وما يزيد من مخاطر الحرائق هو كون الواحات تشهد في نفس الفترة من السنة هبوب رياح شرقية قوية تساهم في توسيع رقعة اشتعال النيران وتحد من نجاعة فرق الإطفاء، لتمتد الحرائق وبشكل سريع على مساحة شاسعة من الواحات لتأتي على عدد كبير من أشجار النخيل وعلى المزروعات المعيشية والعلفية في ظرف زمني قصير...
كما أن حدوث بعض الصواعق القوية والمفاجئة قد تنجم عنها في بعض الأحيان اشتعال النيران خاصة إذا صادف حدوثها فوق أجواء الواحات...وكذلك يمكن الحديث عن بعض العوامل الطبيعية الأخرى التي توفر وتمهد الظروف الملائمة لاندلاع الحرائق من قبيل: توالي سنوات الجفاف وقلة التساقطات وما ينجم عن ذلك من نضوب العيون والخطارات وتيبس جذوع وأوراق المغروسات الشجرية خاصة أشجار النخيل التي تصنف اليوم ضمن التراث الإنساني العالمي ...
صورة: مشهد من الحريق الذي نشب بواحة أديس إقليم طاطا بتاريخ 25 يوليوز 2023
ب- العوامل المرتبطة بأنشطة وسلوكات الإنسان
يتعلق الأمر بالعوامل التي يكون الإنسان طرفا مباشرا فيها، وهي كثيرة جدا، ومن أبرزها:
- التحولات السوسيو- اقتصادية التي شهدتها واحات المغرب منذ فجر الاستقلال، حيث أصبحت مسألة الارتباط الوجداني لإنسان الواحات بالأرض وبمزروعاتها المعيشية تقل مع مرور السنوات، لاسيما بعد ظهور قطاعات اقتصادية عصرية أكثر مردودية على مستوى الإنتاج والدخل وأكثر استيعابا كذلك للأعداد الهائلة لليد العاملة المحلية، مما يساهم في تراجع اهتمام الأجيال الحالية بالزراعات المعيشية للواحات، ومن تجليات ذلك: عدم تنقية حشائش أشجار النخيل لسنوات كثيرة، وعدم جني التمور في وقتها، إذ تبقى التمور عالقة فوق أشجار النخيل لسنوات كثيرة... وهذه المؤشرات تدل على بداية مرحلة تدهور واندثار الواحات؛
- غياب فضاءات ترفيهية خارج المدارات الواحية الأصيلة مما يدفع بلجوء بعض الشباب والأسر المحلية وكذا الزوار إلى البحث عن أماكن للترفيه والاستجمام داخل المجالات الخضراء وتحت ظل أشجار النخيل، حيث وجود المياه وجو رطب ملائم microclimat، وقد تنجم عن بعض السلوكات السلبية كالتدخين ورمي قنينات زجاجية والطهي بالغاز أو بالحطب بجوار الأشجار والحشائش والأعشاب اندلاع الحرائق، ونظرا لكثافة أشجار النخيل في حيز جغرافي ضيق فقد يمكن أن تتسبب الحرائق في إتلاف مئات من الأشجار المثمرة في ظرف زمني قياسي، كما حدث عدة مرات بواحات تمنارت، واحة أديس بتاريخ 25 يوليوز 2023، واحة أيت وابلي بإقليم طاطا وواحة أوفوس بالرشيدية وواحات زاكورة...
- عدم تجهيز الواحات بالمآخذ المائية التي تساعد على الشحن السريع للصهاريج المتنقلة، حيث يؤدي تجهيز الواحات بالنقط المائية إلى تقليص مدة إطفاء الحرائق والتطويق السريع لها وبالتالي خسائر أقل؛
- كما أن بعض السلوكات غير المقننة كالبناء العشوائي داخل مدارات الواحات ورمي النفايات المنزلية وإحراقها بجوانب أشجار النخيل قد تنتج عنها اندلاع النيران في أي وقت ممكن؛
- غياب المسالك الطرقية والممرات داخل الواحات يحد من نجاعة التدخلات السريعة لفرق الإطفاء، ويعد هذا العامل أكبر تحدي تواجهه فرق الإنقاذ، ويرجع ذلك أساسا إلى رفض ذوي الحقوق السماح بانجاز المسالك والممرات داخل حقولهم الزراعية؛
- كما ينجم كذلك عن البعد الجغرافي للواحات عن المحيط الأطلنتي وكذا ضعف مستوى الاحتياطات المائية للسدود المائية المحلية ونضوب بعضها الآخر بسبب توالي سنوات الجفاف وقلة التساقطات (سد الحسن الداخل بالرشيدية، سد المنصور الذهبي بورزازات وسد أولوز...) صعوبة الاعتماد على الطائرات الخاصة بإخماد الحرائق "كطائرات كاندير" التي يتوفر المغرب عليها مما يخلف ذلك خسائر فادحة جدا تمس مختلف المجالات...
صورة: حريق واحة أديس بإقليم طاطا بتاريخ 25 يوليوز 2023
2 تخلف الحرائق بالواحات مجموعة من الانعكاسات السلبية:
تنتج عن توالي الحرائق بالواحات عدة انعكاسات سلبية، ومن أبرزها:
- تراجع في كمية الإنتاج السنوي من التمور، حيث انخفض الإنتاج إلى مستويات متدنية وغير مسبوقة في تاريخ الواحات، على اعتبار أن التمور كانت تعد المنتوج الخالص الذي أشتهرت به الواحات ويعتمد عليها الإنسان المحلي بشكل كبير في تحسين دخله ومستوى عيشه؛
- تفشي ظاهرة الهجرة القروية للساكنة المحلية، خاصة فئات الشباب القادرة على الإنتاج، حيث تخلف هذه الظاهرة فراغا كبيرا لليد العاملة النشيطة، وهذا ما يفسر إلى حد كبير مسألة تدهور الواحات والإهمال الذي طالها بسبب عدم قدرة كبار السن على مزاولة أنشطتهم الفلاحية بنفس الإيقاع والحيوية؛
- تراجع المساحة المزروعة بالواحات واندثار بعضها الآخر بسبب الجفاف وارتفاع وتيرة تردد الحرائق كواحات تمنارت وأديس بإقليم طاطا وواحة أوفوس بالرشيدية، الشيء الذي يعمق من مسألة التبعية الغذائية للأسواق الجهوية والوطنية؛
- نقص في مادة العلف التي تنتجها الواحات خاصة زراعة البرسم أو "الفصة" التي تعتمد عليها الساكنة بشكل كبير في تغذية الماشية، ويؤدي ذلك بمعظم الساكنة إلى شراء الأعلاف الصناعية (الشمندر السكري نموذجا) الشيء الذي سيزيد من تكلفة تربية الماشية؛
- القضاء على التنوع البيولوجي المستوطن داخل المنظومات البيئية الواحية (من وحيش ونبيت)، على اعتبار أن الواحات توفر ظروفا ملائمة للنمو وتكاثر العشائر الإحيائية وترابطها على شكل سلاسل غذائية وطاقية متوازنة...وبالتالي فتوالي الحرائق بالواحات وبهذه الوتيرة السريعة يشكل تهديدا مباشرا للتنوع الإحيائي الفريد الذي تمتاز بها هذه المنظومات البيئية بالنطاقات المناخية الجافة....
3_ بعض الاقتراحات الممكنة لحماية الواحات من الحرائق:
لحماية الواحات من الحرائق وتجاوز مخلفاتها السلبية، نقترح بعض البدائل الممكنة، ومن أبرزها:
- التعجيل بتنقية الواحات وأشجار النخيل من الحشائش؛
- التسريع بإنشاء المسالك والممرات لتسهيل الولوج السريع إلى عمق الواحات عند حدوث الحرائق مما يضمن إلى حد كبير التدخل الناجع والفعال؛
- سن قانون يحمي الواحات من الحرائق يحدد الجزاءات والعقوبات للأشخاص الذين يتسببون في اندلاع الحرائق؛
- تجهيز الواحات بالمآخذ المائية، خاصة في البؤر السوداء (أي الواحات التي تتردد فيها الحرائق بشكل كبير والمناطق المأهولة بالسكان)؛
- إنشاء مراكز القرب لفرق الإطفاء بقرب من الواحات ولو بشكل موسمي خلال فصل الصيف، وتعزيز أسطول فرق الإنقاذ بالآليات والأدوات المساعدة؛
- تكوين الموارد البشرية المختصة في إطفاء الحرائق بهدف مواكبة المستجدات والتطورات التي يعرفها هذا القطاع على الصعيد العالمي، لأن التحدي ليس هو اندلاع الحرائق، بل يكمن التحدي في أشكال وخطط ونجاعة التدخل وسرعة تطويق الحرائق حتى لا تنتشر وتأتي على اليابس والأخضر؛
- إشراك المجتمع المدني المحلي في عمليات التحسيس والتوعية للمواطنين وللسياح بأسباب اندلاع الحرائق في الواحات ومخلفاتها السلبية وسبل الوقاية منها...
- وضع لواحات تحسيسية على جوانب الطرق لتنبيه السائقين والسياح بخطورة رمي بقايا السجائر أو إشعال النيران بجوار الواحات؛
- تنظيم دورات تكوينية للشباب وللفاعلين المحليين بخصوص أشكال وتقنيات التدخل السريع لإخماد الحرائق، وتقديم يد العون لفرق الإنقاذ في عملية إجلاء السكان من منازلهم وحماية ممتلكاتهم الضرورية من ألسنة النيران...
- تخصيص دورية أمنية مشتركة بالواحات خلال فصل الصيف لمنع بعض الأنشطة والسلوكات السلبية التي قد تؤدي نتيجة الإهمال إلى اندلاع الحرائق (كالطهي داخل الواحة وغسل السيارات...)؛
- إدماج حماية الواحات ضمن المناهج التعليمية في إطار تعزيز وترسيخ قيم التربية البيئية لدى الناشئة؛
- تنظيم زيارات استكشافية وثقافية للمدارات الواحية التقليدية لفائدة الباحثين الأكاديميين وكذا لفائدة الطلبة والتلاميذ للوقوف ميدانيا على ما يزخر به التراث المادي الإنساني للواحات الذي يجمع بين الخبرة والمهارة والإبداع والتضامن والتدبير العقلاني المستدام للموارد المائية المتاحة؛
- منع ترخيص إنشاء محطات بيع الوقود بالمراكز القريبة من الواحات وتشديد القيود والقوانين على المحلات التجارية التي تعمل على بيع الوقود ومشتقاته بشكل سري وغير قانوني في الدواوير التي تحيط بها الواحات؛
- تقوية قدرات النسيج الجمعوي المحلي للترافع لدى المنظمات الوطنية والدولية لتصنيف الواحات ضمن المواقع الإيكولوجية التي تستجيب للمعايير المتفق عليها في المعاهدات والملتقيات الدولية (اتفاقية رامسار للمناطق الرطبة نموذجا التي تسهر على تنفيذها منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة)؛
- إنشاء لجنة وطنية أو جهوية أو إقليمية دائمة اليقظة تتكون من جميع المتدخلين تكون مهمتها وضع استراتيجيات للوقاية من الحرائق وأشكال التدخل قبل وأثناء وبعد الحرائق؛
- تشكيل خلية إعلامية على المستوى المحلي تكون مهمتها وضع الخرائط للمناطق والواحات التي تهددها الحرائق بدرجات ومستويات مختلفة ويتم تحيينها بشكل شبه يومي، وذلك بهدف تسهيل عملية التنسيق وتحديد أشكال التدخل ومهام كل مؤسسة على حدة عند حدوث الحرائق؛
- إنشاء الصندوق الأخضر للواحات لمواجهة الأضرار الناجمة عن الحرائق وتجاوز الانعكاسات السلبية التي تخلفها على المستوى المحلي، خاصة تعويض الساكنة المتضررة من مخلفات هذه الكوارث؛
- تخصيص يوم وطني للاحتفاء بالواحات كتراث إنساني وكمنظومة إيكولوجية فريدة على غرار اليوم العالمي للغابات واليوم العالمي لشجر أركان...
- دعم البحث العلمي الموجه للواحات...
تعد إذن الواحات من المنظومات الإيكولوجية الهشة بالمغرب التي تهددها باستمرار ظاهرة الحرائق بسبب العوامل السالفة الذكر. لذلك تبقى الوقاية هي أنجع وسيلة لتجنب الكوارث الناتجة عن الحرائق، وتبدأ الوقاية أساسا من عملية التحسيس وتوعية المواطنين بأسباب الحرائق ومخلفاتها السلبية التي تمس مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.