مولاي عبد الحكيم الزاوي: هل يزكي الانغلاق الدوغمائي النزعات القومية؟

مولاي عبد الحكيم الزاوي: هل يزكي الانغلاق الدوغمائي النزعات القومية؟ مولاي عبد الحكيم الزاوي
ثمة نزوع إنساني رهيب نحو الانغلاق، نحو قضم مكتسبات الحضارة الإنسانية والعودة بها إلى مرحلة ما قبل الدولة الأمة، نحو الارتواء من معين تاريخي أصيل ومقموع في دواخل النفس البشرية، يشدها شدا نحو طغيان النزعات القومية التي بصمت تاريخ العالم بحروب ومحن يذوب من ذكرها الحديد ويشيب من سردها الوليد كما يقال.

ما يهم هنا هو زمانية الانفصال، التي تسوق متواليات عديدة للنقاش، بقدر ما يلاحظ تسابق القوى الكبرى نحو بناء التكتلات الاقتصادية لمواجهة استعصاءات العولمة المتوحشة، بقدر ما يلاحظ كذلك نزوع قوميات أخرى نحو الانفصال وتقرير المصير.

هل أصبح تدبير الاختلاف صعبا في زمن التغني بالديموقراطية وفضائلها؟ هل العالم يسير نحو موجة جديدة من الانعزالات، نحو ضرب جديد من ضروب القومية الجديدة/ الاثنية الجديدة ضد نسق عنف الحاضر؟

يجب أن ننطلق من إواليات معرفية تعترف بأن الانغلاق أصبح مرتعا للهويات المجتثة نتيجة رجات الحضارة المعاصرة، وعرينا لكل الاثنيات الجديدة التي لا تستطيع اثباث ذاتها، بل غدا أداة توظيفية من أجل الوصول إلى السلطة. 

الانغلاق الإنساني محايث لكل نسق من أنساق الهيمنة على الآخر، وهو إلى حد ما بتعبير أوليفي روا صاحب كتاب "الاسلام المعولم" تعبير عن انتقام العولمة من ذاتها، ورفض لفرضية غوربة وأمركة العالم.

نقد الانغلاق يجب أن يتخذ منحيين أساسين، منحى القراءات الدوغمائية التي تحتفي به وتمجده باعتباره انتصارا للخصوصية على الكونية، ومنحى القراءات الاحتوائية التي تعتبره مسيجا ضمن قوالب قارة يمكن تطويعها في خطاطات.

ما يجب أن نلتقطه مما يحدث في هذا العالم، هو كون ديموقراطية اليوم بتعدديتها الفارغة، ونزعتها التقنوقراطية الفارطة لم تعد قادرة على استقطاب وتجييش المتعاطفين، وكسب المريدين ضمن زاويتها، بل صارت جزءا من أزمة أشمل تعتمل داخل العالم، بتركيزها على الإجراءات التقنية ومصادرتها للفرد والقيم والحس الإنساني الجميل.

ندع التساؤلات جانبا، ونعبر نحو أصل الداء، نحو ما سماه الراحل المهدي المنجرة بزمن الاهانات الدولية المتعددة الأوجه، إهانة أمريكا للعالم، إهانة الأنظمة لشعوبها، الإهانة الاثنية والعرقية والدينية، هناك من يناضل اليوم من داخل تيار الايكولوجيا السياسية الجذرية من أمثال زيغموند بومان وستيفان هيسيل وجاك أتالي وغيرهم عن ضرورة إعادة مراجعة مقتضيات القانون الدولي، بما هو قانون غير عادل، لا يساهم في ضمان عدالة انسانية مستدامة، ويزكي بالتالي من الكره الشعبي تجاه الأنظمة المتحكمة، ولعل هذه الصيحة تجد مبرراتها في عمق التاريخ الأسود المحتجب عن الناس، وفي يوتوبيا الواقع المعاش.

القانون الدولي بما هو مرجعية قانونية أنتج لحظة تعرض المنتظم الدولي لرياح التحرر من طرف دول العالم الثالث نتيجة نمو وعيها السياسي وتطوره، بفضل نضالات الأمميات الاشتراكية السوفياتية التي استطاعت بناء وعي نقدي مضاد للإمبريالية الغربية، فهل حان الوقت لوضع القانون الدولي على محك التحولات التي أفرزها عالم ما بعد وفاة الشبح السوفياتي والأمركة العالمية؟ وهل لمسألة الانفصال التي أصبحت واقعا جيوبولتيكيا علاقة بنظام العولمة بما هو نظام قائم على الإقصاء وتدمير الخصوصيات الثقافية وقولبة العالم في نمط ثقافي واحد وأوحد؟ وهل تضارب مصالح القوى الكبرى يغدي من نعرات الانفصال ويقويها مادامت عقيدة سدنة برتون وودز هي مراكمة الأرباح ولو كانت على حساب بؤس المستضعفين؟ ثم ألا يعدو الانفصال تطلعا للشعوب نحو الحرية أم ايمانا بالاختلاف وضرورة التميز مخافة الانصهار والذوبان؟ ثم ما علاقة الانفصال بسياسة التحكم والافتراس الرأسمالي التي تجعل الحالمين به يأملون بالانتقال من الدولة حارسة الطرائد l'état gardien du sache إلى الدولة البستانية l'état jardinière التي تسقي الجميع بلا استثناء بعبارة الجميل زيغموند بومان.

ربما يتذكر العالم كيف أمكن لأفكار الثورة الفرنسية أن تثير ربيعا أوروبيا زاحفا ضد طغيان الإمبراطوريات الشائخة في أوربا، وتقضم قلاع الأفكار المحافظة بأفكار تتغنى بالحرية والعدالة والديموقراطية، وهي بذلك المعنى ترسم وضعا جيوبولتيكيا جديدا داخل القارة، لسوف يتفجر في صراعات اقليمية وكونية بسبب تعقد خارطة الاثنيات والقوميات الأوربية خاصة في منطقة البلقان وشرق أوربا؟

يتذكر العالم كذلك في خضم السعار الدموي الذي رافق مجريات الحرب الكونية الثانية صدور ذلك الميثاق الأطلسي الذي بشر بمبدأ تقرير المصير وبحق الشعوب في تقرير مصيرها في لحظة كان الشبح الجاثم على الأنفاس وقتئذ خطر النازية الألمانية من السيطرة على العالم.

يقول أوديب وهو يصور عالمنا بنوع من الانزياح "المشكلة ليست في الخير، فأنا أعرف الخير، لكن الشر يستبد بي" كذلك الدول، الشر يتطاير، هنا وهناك، وعقيدة المكر والتحايل صارت جزءا من واقع السياسة الدولية، وأسلوب المناورة يدرس في كبريات الجامعات السياسية، فالأصل كما يقول جيل دولوز في الإنسانية سوء التفاهم، بينما الاتفاق يأتي صدفة ومصادفة.

علينا أن نبقى يقظين تجاه مما يحدث من عنف الحاضر، من مكر التاريخ ومكر العقل الحداثي المتنور، فالانفصال ليس سوى تعبير عن دينامية جديدة تتسربل بهدوء في مسار الاجتماعيات الإنسانية.
 
مولاي عبد الحكيم الزاوي/ باحث في علم الإجتماع