الانتصار للاستثناء الثقافي في زمن اللايقين

الانتصار للاستثناء الثقافي في زمن اللايقين جانب من الندوة الثقافية
" الاعلام في زمن اللايقين " الإصدار الجديد الذي نحن بصدد تقديمه بالمقهى الثقافي Cool View بمدينة القنيطرة، في اطار برنامج شبكة المقاهي الثقافية، يختتم سلسة من أربعة كتب تلتقى جميعها في إثارة الانتباه وباستمرار لأهمية الاعلام والاتصال الذي يتعاظم دوره في الزمن الراهن وتحول من سلطة رابعة إلى سلطة أولى فاقت كل السلطات التقليدية، خاصة في ظل المتغيرات التكنولوجية المتسارعة.
هذه الكتب الأربعة فضلا عن " الاعلام في زمن اللايقين " هي " الصحفيون المغاربة المسار والامتداد: الأداء النقابي في الإعلام" ( سنة  2019 ) و" العقل السياسي والعقل الصحفي: خطان متوازيان لا يلتقيان" ( 2021 ) و " حفريات صحافية من المجلة الحائطية إلى حائط فيس بوك" ( 2022 ). 
" الإعلام في زمن اللايقين "  كتاب الذي يقع في 330 صفحة من القطع المتوسط، ليس غرضه الأساس  التوقف مطولا لمقاربة مبدأ اللايقين الذي أسس له العالم الألماني فرنر هايزنبرغ عام 1927، أو التفاعل مع النقاش الدائر حوله بالانتصار لموقف معين إيجابيا كان أم سلبيا، على الرغم من أن مفهوم اللايقين أو الارتياب والشك، أضحى  في اللحظة التاريخية التي نعيش في ظلها،  أكثر المفاهيم تداولا وتحول نتيجة ذلك إلى نموذج تفسيري وبراديغم إرشادي جديد، وانتقل بعد تشكله في دائرة الفيزياء، الى الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية.

 
انهيار الحدود ما بين وسائط الاعلام
وينطلق المدافعون عن اللايقين من فرضية، أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة متناهية، وأن" اليقين الوحيد الذي يمكن أن يتمتع به المرء، هو أننا نعيش في عالم من اللايقين .. "، كما جاء في كتاب " بين الزمن والأبدية" إيليا بريغوجين الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977 و إيزابيل ستنغرس. 
عام 2020، ساهمت جائحة كوفيد 19 في تسليط مزيد من الضوء على مبدأ اللايقين خاصة على المستوى المعرفي والثقافي والاعلامي، وأدت كذلك على صعيد آخر الى انتشار  الأخبار الزائفة ومن المزيد من التفاهة والشعبوية وسيادة التجهيل، في ظل عالم متغير عولمي. لكن بالمقابل يلاحظ على المستوى الاعلام والاتصال، فإن التحولات التكنولوجية جعلت الحدود تنهار، ما بين وسائط الاعلام التي أضحت موجها لطريقة تمثلنا للعالم، وأصبحت نتيجة ذلك العلاقات بين الأفراد والجماعات، لا تتم وفق تجربتهما المباشرة ، بل وفق ما تقدمه وسائل التواصل جاهزة.  
فبظهور الإنترنيت عام 1989، يلاحظ عدد من الباحثين، أنها عادات استهلاك المحتوى الإعلامي، تحول بشكل عميق . كما أن التواصل الذي تسيطر عليه شركات الاتصالات الكبرى، وإن كان يتيح للأفراد فرصا كبيرة للتواصل فيما بينهم، لكن هذا التواصل لا يجرى إلا وفق ما تتيحه شركات التكنولوجيا التجارية التي تنشغل أساسا بزيادة التفاعل عبر هذه الوسائط. 

 
تغير البيئة الإعلامية
ونتيجة ذلك تحول الفضاء العمومي  إلى "فضاء إعلامي بامتياز"، تشكل ضمنه وسائل الإعلام والاتصال النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على انتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الرأي العام. بيد أنه، إذا كانت التكنولوجيا الحديثة، أتاحت الفرصة للجميع من الحصول على المعلومات والتبادل، فإنها أدت بالمقابل الى تغيير جذري في البيئة الإعلامية، وفي مقدمتها ممارسة مهنة الصحافة.
 فالتكنولوجيات الرقمية التي هي في حقيقة الأمر انعكاس للاستعمال الذي يقوم به المرء، يبدو جليا بأنها لم تضع حدا لعدم المساواة في الاستخدام، لكنها بالمقابل وفرت ولوجا غير محدود للمعرفة، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، وجعلت الفضاء الرمزي كالقراءة لا يخضع للرقابة. لكن هذه التكنولوجيا الرقمية، تشكل وسيلة للتحرر وللهيمنة في نفس الوقت، وفي كل الأحوال لازالت وعدا وتحديا، حسب بعض الدراسات.

 
الاستثناء الثقافي
 لكن " الاكتساح الرقمي"، وإن كان قد أفرز طغيان الضحالة وتوارى العميق إلى الخلف، فإن الحاجة تظل ماسة في الوقت الحالي الى الانتصار للاستثناء الثقافي، لمواجهة كل مظاهر التفاهة والشعبوية في عوالم التواصل الافتراضي، ومقاومة العنصرية والتمييز بسبب الجنس، والتطرف واللا تسامح والكراهية التي يلاحظ ارتفاع وثيرتها مع صعود اليمين المتطرف بالغرب، وبات الأفراد بالتالي أكثر تفاعلا مع هذه المعلومات المضللة والأخبار الزائفة، وهو ما ساهم في تراجع في احترام التنوع الفكري والثقافي وعلى الديمقراطية والاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي  والعقلانية في اتخاذ القرارات، كما يرى بعض الباحثين في قضايا الاعلام.
وهكذا  تظهر بعض الاحصائيات، بأن ثلثي الأشخاص في العالم، تتراجع ثقتهم بمتوالية هندسية في السياسيين وفي المنظمات السياسية والهيئات الاقتصادية والإعلامية، بل الأنكى من ذلك حتى في العلم، مثال ما عرف ب"أزمة الثقة في اللقاح" خلال جائحة كوفيد 19، والتحولات التكنولوجية أيضا. 

 
التربية الإعلامية ليست ترفا
لكن يظل المطلوب في نظري الإسراع  بإدراج برامج التربية الاعلامية بالمؤسسات التعليمية منذ المرحلة الابتدائية، وتأهيل منظومة التربية والتكوين، والاستثمار الأفضل للتكنولوجيا الحديثة في بناء المعرفة والهوية والسلوكيات لدى الجيل الناشئ، لتحقيق المناعة التربوية والثقافية، في مواجهة كل التأثيرات السلبية التي قد تنتج عن الاستخدام السيء والمعيب للتكنولوجيا الحديثة المرشحة لمزيد من التطور نتيجة الذكاء الاصطناعي الذي قد يقضى على بعض المهن وفي مقدمتها الصحافة والاعلام التي تعاني أصلا من الهشاشة، وهو ما يقتضى اعدد استراتيجية إعلامية واضحة المعالم مع جعل الاعلام العمومي يتحول الى قاطرة حقيقية للإعلام الوطني بشقيه التقليدي والجديد.
فاندماج المؤسسات التربوية في مجتمع الإعلام والمعرفة، لا ينبغي النظر إليه باعتباره مجرد ترف فكري، وإنما ضرورة حتمية، من أجل تطور المجتمع والارتقاء بمستوى كل مكوناته في كافة المجالات.

 
قلق حول مُستقبل الإعلام
وبالعودة الى كتاب " الاعلام في زمن اللايقين"، فإنه يتضمن ستة فصول هي "الاعلام والسياسة" و "الصحافة و الذاكرة" و " الإعلام والرقمنة" و" الثقافة والاعلام" و "الاعلام والمؤسسات" و"الاعلام والجوار". إن نُصوص هذا المؤلف،" تحمل قلق السؤال حول مُستقبل الإعلام في قلب تحولات جارفة . تفعل ذلك وهي تُفكر في أثر السياسي على الصحافة، و تقف على اختبار الأخلاقيات في زمن الرقمنة، و تستعرض تحديات الصحافة الثقافية أمام اكتساح الضحالة المُعممة، و تُدقق النظر في حُضور الطفل و المرأة و الثقافة والرياضة في إعلام اليوم ، و تبحث في مآلات بنيات و مؤسسات الأداء الإعلامي"، كما كتب في تقديم المؤلف الأستاذ  الجامعي حسن طارق 
 لقد توفق كثيرا الأستاذ طارق كذلك حينما عبر عن اعتقاده في ذات التقديم من أن نُصوص الكتاب التي تبدو - للقراءة السريعة - مقالات عابرة تُقدم رأياً أو تعليقاً يومياً حول حدث آيل للنسيان، تحمل في عُمقها عُصارة حياةٍ كاملة وسط الأحداث و مع الفاعلين، و عُمراً مهنيا كثيفاً في معالجة الأخبار" الساخنة"،  و تحليلها و متابعتها، و تجربة في تدبير المسافة مع الوقائع اليومية و تجريب التفكير " البارد " في التحولات و المآلات و الآفاق ذات الصلة بقضايا الديمقراطية و الإعلام.
*مداخلة في لقاء تقديم كتاب " الاعلام في زمن اللايقين" السبت 15 يوليوز 2023 بالمقهى الثقافي View Coole بمدينة القنيطرة