عبد الحميد العدّاسي: ضياع

عبد الحميد العدّاسي: ضياع عبد الحميد العدّاسي
قادتني رغبتي في المشي الحريص على معرفة المدينة وشوارعها وأنهجها وزواياها وخفاياها، إلى بلوغ مجاهلها.
بناياتٌ كبيرة موصدة تؤكّد أنّني ضائع في محيطها، ومحيطٌ ساحليّ يؤكّد أنّها جُعلت لتخزين ما سوف ينقله أو يأتي به بحرُها. كنت وحيدا لولا احتفال الذّاكرة باستقدام ابني الشّيخ علي القحطاني الكريم وحضوره بابتسامته الجميلة المعهودة.
 
كنت أتابع هذا الشّاب الأسمر الوسيم وأسعى إلى التّعرّف عليه مذ نزل بالمصلّى القديم في البناية حديثة الشّراء. سهّل لي تواضعُه الاقترابَ منه ومجالسته. قرأت عليه بعض القرآن الكريم فنلت تشجيعاتِه وأشعرني بطيّباته.
عرفت أنّه يَمَنيّ جاء وقتها باستدعاءٍ من المجلس الإسلاميّ الدّنماركيّ، مالك المكان المسجّل وقتها باسم "الوقف الكبير"، لإمامة المسلمين في صلاة التّراويح وإحياء ليالي رمضان قياما وتهجّدا.
 
عرضتُ عليه ذات يوم مرافقتي في جولتي اليوميّة الرّمضانيّة بعد العصر، فاستجاب مبتسما مستحسنا، فكانت تلك البداية، ثمّ فسح المشيُ الطّهورُ المجالَ واسعا وولّد ثقة شفعت التّعارف بالتّعرّف، فأضفتُ إلى قائمة أهلي المفضّلين رجُلا كأنّما خبّأه الزّمان طويلا يخشى عليّ قبل الأوان الفناء في محبّته.
 
كنّا إذا سرنا في منطقة لم نتعوّد السّير فيها نبّهته إلى إمكانيّة الضّياع، فيبتسم عليٌّ ويقول ضاحكا: إنّ خير ما في خرجتنا هذه ذاك الضّياع.
 
دخل عليٌّ بيتنا فبتنا كما لو كنّا ضيوفا عنده، نتأدّب بحضرته. دخل عليٌّ قلوبنا حتّى بات غيابُه يُوحِش قلوبَنا ويبئسُها. قضّى مرّة شهرا كاملا معنا، تمنّينا لو أنّ الزّمان وقد استدار يستنسخ ذلك الشّهر. أحبّ عليٌّ الاستقرار بالبلاد الاسكندنافيّة ورغب في التّزوّج فيها من مسلمة ترتضيه ويرتضيها، ولكنّ الله تعالى قدّر له غير ذلك وما شاء فعل، فرجع إلى اليمن ليجمع هناك بين القرآن الكريم والصّوت المرتِّل الجميل وبين الشّهادة الرّفيعة التي منعته الوجود في الشّمال الاسكندنافي واختارت له بإذن ربّها حياة الصّدّيقين. علم الله ﷻ أنّني حَزِنتُ على عليٍّ حتّى رأيت نفسي من أهله بل من السّبعين من أهل بيته الذين يُشفَّع فيهم وهو شهيد، أحببته حتّى ما فرّقت بينه وبين أبنائي، أترابِه، بل أحببته حتّى افتكّ منزلةً رفيعةً من بعض أترابِه. أحسب أنّه فعل معي ذلك أو خيرا من ذلك، بل قد فعله مع العائلة جميعا حتّى كان عند موته ثانيَ فقيدٍ فيها بعد أخته يسرى رحمهما الله وجميع موتى المسلمين.
 
كنت أثنـــــاء ضيــــاعي تلك المرّة في المنطقة السّاحليّة أحـادث بعض الأهل عبر خدمة الواتساب بلغتي العربيّة، لمّا فاجأني هذا المارّ الدّنماركي بما لم أتبيّنه بادئ الأمر، قطعتُ المكالمة معتذرا وراجعت، فإذا هو يلومني على استعمال لغة غير لغة بلده، ويذكّرني بواجب إتقانها وضرورة تكلّمها، طالما ظللت في بلده. بلدٌ يقول تاريخُه أنّه فقد ثلثَه في سبر آراء، خُيِّر النّاسُ فيه بين المغادرة وبين تكلّم لغته، فآثروا المغادرة والالتحاق بألمانيا على أن يتكلّموا لغته.
 
كان يمشي في الاتّجاه المعاكس فأجبرني كلامُه على الرّجوع إليه لإفهامه، وكان استفزازُه يساعدني على استحضار كثيرٍ من مفرداتِ لغةٍ لم أتمكّن وقتها ولا لاحقا من إتقانها.
 
كنت أحثّ الخطى حتّى أجبَرَه إسراعي على نوعٍ من الرّمل (الهرولة) الخفيّ: ألديكم لغةٌ حتّى تدافع أنت عنها بما يسيء للنّاس؟! ألم تسافر خارج البلاد فتلاحظ أنّ مواطنيك يتركونَها في مطار المغادرة؟! ألم تقرأ لكاتبكم الذي سبقك، أنّه قد خصّصها للتّخاطب مع الكلاب، أمْ أنّ كلبك قد كَتَمَك الخبر؟! وحديث آخر كثير سمحتْ بقوله أرض الضّياع.
 
كان موقفه ذلك عنصريّةً منه وسفالةً استثنائيّين... عنصريّةٌ لا يخفّف من وقعها إلّا تلك التي أبداها بعضُ أهل بلادنا الذين رفضونا ورفضوا وجودنا حتّى قتلوا بعضَ رؤوسِهم البارزين لإلقاء التّهم الباطلة علينا، وسفالةٌ لا يرقّيها إلّا سفول بعض السّفهاء التّافهين الذين نبتوا طفيليّاتٍ في بلادنا زمن اعتلال المــروءة بتأثير آلة الحاكم المستبدّ الظّالم الأثيم.
 
عنصريّة قد نهوّن وقعها ونتفهّم قوانينها بمجرّد نظرة إلى واقع بلادنا أو بالإصغاء الحكيم إلى ما باتوا يردّدونه في الدّنمارك وفي غيرها من بلاد الغرب مستهزئين بجرأةٍ غيرِ مسبوقة، في المنابر وفي الشّوارع وعبر وسائل الإعلام، يقولون: "إذا أبأستكم عنصريّتُنا، فعودوا إلى دياركم، فإنّ فيها الدّيمقراطيّة وحياة الرّفاه والكرامة".يتضاحكون! استهزاءٌ لاذع نفهم منه أنّ محاولة الإذلال لم تَقنَعْ بسجننا والتّضييق علينا في بلداننا بما سخّر الحاكم من وسائل الرّدع فحسب، بل طاردتنا خارج البلاد بإفقادنا الحجّة مع المضيّفين الذين قاوموا تطلّعاتنا إلى العيش الكريم بالنّظر في أصلنا.
 
ثمّ راجعت مشهد منطقة الضياع وناقشت الموقف فيه، فوجدتني غير حريص على طول توقّف معه، فما كان الرّجل على المستوى الفرديّ غير الحكوميّ في هذه البلاد إلّا استثناء لن يتمكّن مهما اجتهد وبعض المنغّصات من إنساء فضل هذه البلاد بعد الله تعالى عليّ، فهي التي آوتني بعد أن هجّرني ملأ من قومي وهي التي أعانتني بعد أن خذلني قومي.
 
ولئن استكثر عليّ هذا الآدميّ استعمال لغتي الأمّ في مكان لا يسمع حديثي فيه غيرُه، فقد رأى مديري في العمل الأمر طبيعيّا لمّا بادر وثلّة من الموظّفين إلى دفع سيّارتي يوم رفض محرّكُها الدّوران.
 
لقد كان دفع السّيّارة من طرف مديري أكثرَ تأثيرًا فيّ من إثارة هذا المجهول الجاهل واستفزازه لي، فليس الخير كالشّرّ وليست المروءة كاللّؤم وليس التّعارف كالتّنافر، ولا التّواضع كالاستعلاء المفضي إلى العنصريّة ثمّ إلى الذّلّ، ثمّ استنكرت سلوكي؛ إذ كيف "أسطو" على دنماركيّ وأنا في بلده، وأهل بلدي يعاملونني بما هو أسوأ من معاملته، فقد ألقى حاكمنا المستبدّ بي وبإخوتي خارج البلاد دون اكتراث، مهجَّرين منقطعين عن الأهل، حتّى رآنا أحدُ مترَفي العربِ الأعراب منبتّين، فسمّانا اعتداءً "مسلمي التّيه"، وقد جهِل أو تجاهل أنّ الذين تاهوا قد عصوا ربّهم وإنّا ما خرجنا من بلادنا إلّا رفضا لظلمِ أشباه الذين عصوا ربّهم، فتاهوا؟!.