ياسين بلقاسم: فرنسا.. احترقت "الحديقة" الأوروبية والأمم المتحدة تدين عنصرية الشرطة

ياسين بلقاسم: فرنسا.. احترقت "الحديقة" الأوروبية والأمم المتحدة تدين عنصرية الشرطة ياسين بلقاسم
في مؤتمر صحفي بجنيف، وبشأن مقتل الشاب نائل مرزوق في نانتير بسلاح ناري من طرف شرطي، يوم الثلاثاء 27 يونيو، دعت الأمم المتحدة فرنسا على لسان رافينا شامداساني الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، إلى "معالجة جدية لمشاكل العنصرية والتمييز الاجتماعي داخل القوات الأمنية"، بينما باريس تعلن عن عسكرة المدن والتضييق على الضواحي و"الحديقة" الأوروبية محروقة وايمانويل ماكرون رئيس 25 في المائة فقط.  
أثار مقتل الشاب البالغ من العمر 17 عاما برصاص الشرطة ردود فعل غير مسبوقة من حيث القوة والاستمرارية على مدار العشرين عاما الماضية مقارنة بحلقات قمع مماثلة حدثت ضد ساكنة الضواحي. 
في ليلة السبت-الأحد التي وصفتها وسائل الإعلام الفرنسية بأنها "ليلة أكثر هدوءا من سابقتها"، تم اعتقال 719 شخصا، وأصيب 45 من رجال الشرطة والدرك، وأضرمت النيران في 577 مركبة و 74 مبنى، وإحصاء 871 حريقا في الشارع العام، حسب وزارة الداخلية التي لم تتحدث طبعا عن الجماهير المتظاهرة والضحايا والجرحى والمعنفين بشكل همجي من طرف الشرطة والدرك. وبذلك، لم تكن تلك الليلة الهادئة التي "عادت إلى طبيعتها" كما زعمت الحكومة. 
نظريا، لم تلجأ الدولة إلى حالة الطوارئ، لكن، عمليا، التدابير المتخذة لم تكن بالتأكيد أقل صرامة: نشر أكثر من 45000 فرد من مختلف أسلاك القوات الأمنية المسلحة، وتعبئة المدرعات التابعة لقوات الدرك، والوحدات المتخصصة RAID و GIGN و BRI والمروحيات التي حولت المدن الفرنسية الرئيسية الثلاث مثل باريس وليون ومرسيليا إلى مناطق إنزال كثيف واحتلال عسكري كامل. 
لم تكن المدن الكبرى في اليوم السادس من المظاهرات هي الوحيدة التي عرفت "ليالي النار"، ولكن أيضا جميع المدن المتوسطة الحجم تقريبا، بالإضافة إلى أقاليم ما وراء البحار؛ علامة على امتداد التمرد الذي لم يتوقف عند الضواحي الباريسية بل في المناطق الحضرية في فرنسا ككل. 
في الواقع، في الأيام الأخيرة، تم إلغاء جميع الأنشطة مسبقا، وتوقفت وسائل النقل المحلية مثل الحافلات والترام عن العمل في الساعة التاسعة مساءا، وكان هناك العديد من عمليات حظر التجول  ومنع المظاهرات على مستوى العمالات والبلديات. 
والأخطر من ذلك، أنه شوهد جندي فرنسي من الوحدات الخاصة التي تحرس "الحديقة" مسلح بشكل لا يصدق بسلاح ناري روسي الصنع من طراز Vepr-12 بمعنى أن استخدام الهراوات والغاز المسيل للدموع والعنف الجسدي ووسائل الترهيب والترويع كانت غير كافية. 
ويجد ماكرون نفسه في وضع حرج حول نقطة أساسية من حملته الانتخابية عام 2017، وهي مكافحة عزلة الشبان داخل الضواحي والتوترات في المجتمع الفرنسي. وفي خروج مثير زاد الطين بلة، أعلن، صباح الجمعة أنه مستعد لأي احتمال "بلا طابوهات"، واختار استعراض عضلاته بدلا من محاولة تهدئة الأوضاع حيث فُرضت عسكرة كبيرة، مع عدد كبير من الاعتقالات، في ليلة الجمعة-السبت، تجاوز الألف، وأكثر بقليل من 700 في الليلة التالية. 
كانت الاستراتيجية القضائية فورية وكان عدم التسامح مطلقا مع الموقوفين وعائلاتهم سيد الموقف، باعتبار من أصل 900 معتقل، شكل القاصرون التي تتراوح أعمارهم بين 14 و 18 سنة، الثلث. 
الرئيس ماكرون وحكومته، بدلا من التحري في العنصرية و"الترخيص بالقتل رميا بالرصاص من طرف الشرطة" وانتشار الأفكار والأفعال الفاشية المتزايد في قطاع الشرطة ومنها التي عبرت عنها صراحة بلاغات نقابة شرطة التي أعلنت يوم الجمعة أن الشرطة "في حالة حرب ضد جحافل الهمجية"، حول ماكرون مركز ثقل الانتباه إلى مسؤولية عائلات الطبقة الشعبية، مما أدى إلى تفاقم عملية إلقاء اللوم على الطبقات السفلى في فرنسا.
وبذلك لم تلق آذانا صاغية كلمات رافينا شامداساني، الناطقة باسم المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، التي قالت يوم الجمعة: "لقد حان الوقت لكي تتصدى البلاد بجدية لمشاكل العنصرية والتمييز العنصري داخل الشرطة" في فرنسا. 
وتأكيدا للمعايير المزدوجة التي يطبقها الغرب فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، وتلك التي تنتهجها باريس تجاه روما في قضايا الهجرة، حيث يتم توظيفها بشكل فعال عندما يتعلق الأمر بمهاجمة الخصم، ولكن يتم تجاهلها عندما يدوس عليها ماكرون وجوسيب بوريل، المفوض السامي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي الذي وصف مؤخرا الاتحاد الأوروبي ب "الحديقة" بمقارنتها بـ "الأدغال" إشارة إلى بقية العالم. 
في الوقت الذي فيه أصر وزير العدل، إريك دوبون موريتي، على أنه "ليست الدولة هي التي تقوم بتربية الأطفال"، ذاهبا إلى أبعد مما قاله ماكرون، ومناشدا أولياء الأمور لمنعهم فعليا من الخروج من المنازل، جاءت "الحملة الصليبية" التي أطلقتها الحكومة الفرنسية ضد شبكات التواصل الاجتماعية مثل الفايسبوك و Snapchat و TikTok، التي تستخدم على نطاق واسع كأداة للتواصل والتنظيم هذه الأيام. 
وفي مواجهة "حرية المعلومات"، يريد Dupont-Moretti المضي فعليا في عملية تحديد جماعي لهوية الذين استخدموا هذه التطبيقات أثناء أعمال الشغب، واللجوء إلى تطبيق قوانين محاربة العصابات الإجرامية عليهم. 
ماكرون، الذي يعتبرون 75 في المائة من الفرنسيين أنفسهم "خاسرين" في السياسات التي اتبعها، حسب استطلاع حديث للرأي، أنجره معهد "إيفوب" المتخصص لفائدة "راديو سود"،لم يضيع وقتا في التنديد بـ "الاستغلال غير المقبول" للأحداث، لا يبدو أنه يريد الخروج من المأزق السياسي بحل آخر غير "القبضة الحديدية"، مهاجما كل من يسلط الضوء على تشوهات نموذج التنمية من حيث انتهاك حقوق الانسان بشكل فضيع، والهشاشة، والفصل العنصري، والعنصرية المؤسساتية الممنهجة التي يعيشها ملايين الأشخاص من الطبقات السفلى في الأحياء الشعبية. 
من الواضح أن الأسبوع الماضي قد أظهر عنصرا دقيقا للغاية وهو أن الحركة النقابية والجمعوية والسياسية تمكنت من تأطير غضب الضواحي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واليوم يعيد اليمين المتطرف إحياءه، واليسار المتطرف عاجز عن التعامل معه وبدون شك يخيم على الواقع والمستقبل: مواجهة مباشرة بين الشباب والشرطة.
إن الأزمة السياسية في فرنسا خطيرة لدرجة أنه في مراحل مختلفة، حشدت شرائح مختلفة من المجتمع بطرق راديكالية ضد "رئيس الأثرياء" وحكومته، وبعد حركة السترات الصفراء، الأولى ثم الثانية، جاءت الحركة ضد إصلاح نظام التقاعد، وحركة التذمر ضد تدبير فترة جائحة كوفيد، وأخيرا وليس آخرا، جاء الغضب المشروع لشباب الضواحي، بالإضافة إلى نضالات أنصار البيئة وقطاعات الطبقة العاملة. 
الآن وأمام أعين العالم، اشتعلت النيران في "الحديقة" التي قيل عنها آمنة وهادئة، وليس واضح متى سيتم إطفاء الحريق.
الغضب المشروع الذي أشعل شرارته اغتيال الشرطة بدم بارد لطفل يبلغ من العمر 17 عاما هو نتيجة لأزمة اقتصادية ومؤسساتية وسياسية عميقة يبدو أنه ليس لها حل آخر في الوقت الذي تزحف فيه الفاشية للسيطرة على أجهزة الدولة. اليوم يسير الليبراليون والمحافظون واليمين المتطرف جنبا إلى جنب، يلعب شكليا كل منهم دورا مختلفا. بينما اليسار المنقسم على نفسه شعوبا وقبائل وعصابات، ليس فقط في فرنسا، مدعو إلى تقديم نقد ذاتي مقنع مما سببه للفئات الهشة من استغلال سياسي عبيط بترويج الوعود الكاذبة ودغدة العواطف. على اليسار أن يقدم استجابة ملتزمة ومناسبة لأنه بعد الوباء وفي زمن الحرب الروسية الأوكرانية وطرد ومحاصرة فرنسا في إفريقيا وآسيا، تنبثق فلسفة حكومية من رماد الحكم النيوليبرالي الذي يهدف إلى تفتيت ما تبقى من الديمقراطية، وضمانات حقوق الإنسان وسيادة القانون لشن الحرب على الفقراء.
وعلى صعيد آخر، حملت الأوضاع الملتهبة في المدن الرئيس على تأجيل زيارة دولة كان يعتزم القيام بها إلى ألمانيا من مساء الأحد إلى الثلاثاء. وقبل ذلك، ألغيت زيارة ملك بريطانيا تشارلز الثالث في نهاية مارس الماضي بسبب الأزمة الاجتماعية الحادة حول نظام التقاعد.