من يتحمل مسؤولية ما يقع من تجاوزات بمحارك التبوريدة؟ هل الأمر يرتبط بالتسيّب في ميدان التبوريدة أم أن هناك انفلات أخلاقي تسرب لهذا الموروث التراثي بفعل فاعل، وما هي أسبابه الحقيقية؟ ما هو دور مْقَدَّمْ السَّرْبَة في ضبط فرسان كتيبته؟ هل مازالت "الْمَشْيَخَةْ" تؤدي دورها الطليعي، التربوي والأخلاقي في منح صفة عَلَّامْ الْخَيْلْ بعد تلقينه وتعلّمه أصول وقواعد فن ورياضة التبوريدة عن طريق شيخ المدرسة والطريقة المنتسب إليها؟ هي أسئلة وأخرى ستحاول جريدة "أنفاس بريس" الإجابة عليها.
تذكير لابد منه:
تطرقنا في مقال سابق بجريدة "أنفاس بريس" تحت عنوان "عَلَّامْ الْخَيْلْ مسؤول عن سلوك وأخلاق فرسان كتيبته خلال عروض التْبَوْرِيدَةْ" إلى بعض الممارسات والسلوكات المرفوضة (شرعا وعرفا وقانونا) التي يقوم بها بعض "مْقَادِيمْ" السَّرْبَات أو فرسان من نفس "الْعَلْفَةْ" بالعديد من المواسم والمهرجانات، حيث أكدنا على أنها تسيء لتراث فن ورياضة التْبَوْرِيدَةْ على جميع المستويات، خصوصا أننا اليوم لم يعد من المقبول أن نسقط في الخطأ أو رسم صورة مُشَوَّهَة بفعل التهاون واللامبالاة بعد تصنيف موروثنا التراثي والحضاري ضمن قوائم التراث اللامادي بمنظمة اليونسكو.
لم نتردد في المقال السابق في قول الحقيقة المرّة التي ترسم صورة سوداء لما يمارس من سلوكات مشينة من طرف بعض الفرسان أمام الملأ، وهم على صهوات الخيول المتأهبة لتقديم عروض التبوريدة خلال بعض المواسم والمهرجانات ذات الصلة، على اعتبار أن النقد والنقد الذاتي يساهم في تصحيح المسار، وتعزيز قيم ثقافة الاعتراف بالخطأ كفضيلة، من خلال التنبيه والنصح والتقويم....من أجل القطع مع سلوكات تمارس على صهوة الخيول من بينها على سبيل المثال لا الحصر (تدخين السجائر والمخدرات، والتفوه بالكلام الساقط، والسب والشتم، أو التحرش بالنساء....).
مسؤولية "لَمْقَدَّمْ" وحرصه على حسن أخلاق فرسان السَّرْبَةْ:
يقول الحديث النبوي الشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، هي جملة خفيفة في اللسان ثقيلة في الميزان، بحكم أن القيادة مسؤولية، والمسؤولية تقتضي الإيمان بضوابط الصرامة والإنضباط والإلتزام والإلزام بما أقرّه الشّرع والعرف والقانون، حتى لا تسود الفوضى والتسيّب والعشوائية. خصوصا على مستوى فن التبوريدة كموروث حضاري ومكون تراثي عالمي.
لا يتناطح عنزان كون أن أهم شرط من شروط تعلم أصول التبوريدة يخضع لمعايير دينية وأخلاقية لا يمكن اكتسابها بالمال أو النفوذ والجاه، وإنما تورّث أبا عن جد، وتلقّن عن طريقة "الْمَشْيَخَةْ"، التي لا تزيغ عن صفاء النّية والبركة والتّسليم.
رْكُوبْ الْعَزْ وَنْزُولْ الطَّاعَةْ
إن "مَشْيَخَةْ" التبوريدة تُلْزِمُ الممارس سواء كان عَلَّامًا أو فارسًا الانضباط لدروسها المكتسبة بالاحتكاك والممارسة، والحرص على طقوسها وتقاليدها المعروفة والمعلومة. دون التفريط في درسا من دروس ركوب الخيل في علاقة وطيدة بين الرّاكب والمركوب، حيث يوصي أهل الميدان خلال امتطاء صهوة الخيل بطهارة البدن والوضوء، والحفاظ على الصلوات الخمس، وقراءة القرآن، والمعاملة الحسنة والاحترام المتبادل بين الفرسان والقائد / الْعَلَّامْ، والتعامل الجيد مع أحصنتهم ورعايتها، والتشبع بأناقة المظهر واللباس التقليدي الأصيل وفق عادات وتقاليد "الْمَشْيَخَةْ" المستند عليها، سواء داخل الْخَيْمَةْ / لَوْثَاقْ أو وسط محرك البارود وخصوصا أمام الجمهور. ألا يقول الْحَبْحَابَةْ "لَمْجَادِيبْ" عند الدعاء لموالين الخيل قبل امتطاء صهوات جيّادهم (بْغَيْنَا لِيكُمْ رْكُوبْ الْعَزْ وَ نْزُولْ الطَّاعَةْ)؟.
مكانة صهوة الحصان ولَوْثَاقْ كمكانة المسجد
في هذا السياق شدد رئيس جمعية شباب تكنة بإقليم سيدي قاسم سعيد بيتور في حديثه مع الجريدة على أهمية رمزية لَوْثَاقْ "خَيْمَةْ لَمْقَدَّمْ" التي تعد في أعراف الرّواد من شْيُوخْ التْبَوْرِيدَةْ المغربية بمثابة مكانة المسجد (الجَّامَعْ)، وجب احترام فضائها الاجتماعي والروحي، والسهر على جماليتها ونظافتها كعلامة من علامات الإنتماء للقبيلة، على اعتبار أنها تظل مفتوحة في وجه الضيوف واستقبال الزوار الوافدين من مختلف الوجهات.
إن "لَوْثَاقْ" يعتبر الفضاء الدائم للفرسان والعَمَّارَةْ (أشخاص يحشون لمكاحل بالبارود) والمرافقين وحجيج الضيوف، سواء أثناء تقديم كؤوس الشاي والمكسرات والحلويات والفطائر، والوجبات الغذائية، أو خلال فترة الاستراحة والنوم.
إن خَيْمَةْ الْبَّارْدِيَّةْ مْوَالِينْ الْخَيْلْ هي سَقِيفَة اجتماعاتهم، وفضاء مشاورات وتبادل الرأي أثناء استعداد الفرسان وقائدهم لتغيير أزيائهم وملابسهم التقليدية وهي مستودع "أَسْنِحَتِهِمْ" الخاصة بسنابك الخيل والبارود. والمكان الذي تقام فيه الصلاة والدعاء قبل وبعد تقديم عروض التْبَوْرِيدَةْ. لكن للأسف الشديد هناك ممارسات أضحت في زمننا هذا تمارس وسط "لَوْثَاقْ"، دون أن ينبه عَلَّامْ الْخَيْلْ / القائد لكل ما من شأنه أن يسيء لرمزية "الْخَيْمَةْ" ودلالات القيم التاريخية والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية التي تعاقد عليها الأسلاف والأجداد.
جمعية شباب فرسان تكنة تشتغل بموجب قانون المساءلة والمحاسبة:
أشار رئيس جمعية فرسان شباب تكنة بإقليم سيدي قاسم سعيد بيتور إلى أن القانون الداخلي للجمعية والذي يسري على سربة (قبيلة الشراردة) التي يقودها لَمْقَدَّمْ عَبْدُ اللهِ بَنْ أبِّيهْ، يلزم كل المنتسبين إليها (أعضاء وفرسان وعمارة ومرافقين...)، يلزمهم باحترام فضاء خيمتهم التي ترمز لمكانة التبوريدة في نفوس المغاربة، ومرافق أخرى بالقرب منها (خيمة المطبخ مثلا)، وعدم خرق ضوابطه (النظافة وترتيب الأفرشة، والموائد والصّْوَانِي، وتصفيف السّروج، ووضعية لمكاحل وصيانتها، ومراقبة كل مستلزمات التبوريدة...)، حيث أن الضوابط القانونية وسط الخيمة "لَوْثَاقْ" جد صارمة وتستدعي المساءلة والمحاسبة، لكن جوهرها ينطوي على إقرار أهمية حسن وجمالية ونقاء وطهارة الفضاء واحترامه، وإلا فالحكم بالغرامة المالية المحددة في القانون الداخلي هو مصير المتلبس وإجراءات أخرى.
"نحن لسنا ملائكة منزهين عن الخطأ، ولكن على الأقل نفرض احترام مجال التبوريدة خلال تمثيل المنطقة بالمهرجانات والمواسم التي نستدعى لها، مثل مهرجان روابط بعاصمة الرحامنة، وأصيل بجماعة المهارزة وسيد لغنيمي بسطات وغيرهم. ونصر على عدم التفريط في ما اكتسبناه وتعلمناه و ورثناه من طقوس وعادات خلدها شيوخنا من الرواد رحمة الله عليهم" يؤكد سعيد بيتور الذي شدد على تحريم التدخين على صهوة الحصان ولو ظل الفارس ينتظر لساعات طويلة توقيت تقديم عرض التبوريدة في مكان نقطة الانطلاقة.
لا نقدم للفارس على صهوة الحصان سوى الماء والشاي:
من أدبيات ثقافة ممارسة فن التبوريدة عند سربة فرسان شباب تكنة يقول لَمْقَدَّمْ عَبْدُ اللهِ بَنْ أبِّيهْ (فُوقْ ظْهَرْ الْعَوْدْ مَا يَتَشْرَبْ غِيرْ الْمَا وأَتَايْ...شِي حَاجَةْ اخْرَى دِيفَانْدِي...مَمَنُوعَ)حيث أكد كل الفرسان على ما يلي: "تربينا وتعلمنا بأن صهوة الحصان مثل المسجد، لا يمكن أن يقوم الفارس بما حرّمه شيوخنا في التبوريدة من سلوكات مشينة إن كانت سربتنا تنتظر دورها لتقديم العرض أمام الجمهور بالمواسم والمهرجانات".
وأوضح مْقَدَّمْ السَّرْبَةْ عَبْدُ اللهِ بَنْ أبِّيهْ بقوله: "على صهوة الحصان لا يقدم للفرسان سوى قنينات الماء وكؤوس الشاي ودون ذلك فهو محرم على الجميع، إلى أن نعود سالمين غانمين من محرك التبوريدة".
أول عقوبة تلقى الفارس الصبي عبد الله بن أبِّيهْ:
وعن قصته مع سربة الخيل برآسة العلام أحمد حمين وهو مازال صبيا في سن 13 ربيعا، يحكي الْعَلَّامْ عَبْدُ اللهِ بَنْ أبِّيهْ، كيف وقع في المحظور ذات صيف قائض في أحد المواسم، حيث تعرض للعقاب من طرف أخيه الفارس عبد العزيز بن أبيه روى قائلا:
"كنت في سن صغير لا أتجاوز 13 سنة، وكنت ضمن فرسان لمقدم أحمد حمين، أمتطي صهوة جوادي مدثرا بلباسي الأبيض (الجلابة والعمامة...والدليل والكمية) وكنا ننتظر دورنا للمرور أمام الجمهور، لكن وقوفنا تحت أشعة وحرارة الشمس الملتهبة جعلتني أنصاع لنداء بائع (بُولُو) المثلج بلونه البرتقالي. ولم أتمالك نفسي حيث طلبت من البائع أن يمدني بقطعة من مثلجاته الباردة، وأديت له ثمنها".
ما هي إلا لحظة خاطفة حتى شعر الفارس الصبي بضربة قوية على فمه حيث حكى مبتسما: "هممت بالتهام قطعة الثلج البرتقالية لأروي عطشي على صهوة الحصان، وفي غفلة مني شعرت بضربة قوية تكسر القطعة بين أسناني وشفتي وتلطخ جلبابي الأبيض".
هكذا تلقى الصبي عبد الله بن أبيه أول درس في الانضباط واحترام طقس وعادة الركوب من طرف أخيه الفارس عبد العزيز الذي طلب منه في الحال الذهاب للوثاق وتغيير جلبابه والعودة سريعا بجانب فرسان السربة للمشاركة في تقديم عرض التبوريدة.
اليوم يعتبر لمقدم عبد الله بن أبيه مرجعا في الانضباط، ويُعدُّ من خيرة الْعَلَّامَةْ في المتشبعين بقيم الأخلاق والإلتزام، وتعتبر عروضه من أرقى العروض الفرجوية التي يتحدث عنها ويعشقها جمهور مهرجانات التبوريدة على المستوى الوطني، بل أنه رفقة أعضاء الجمعية والفرسان يسهرون على تمرير نفس الضوابط القانونية والأعراف التي شربوها من ينبوع شيوخ الشراردة بسيدي قاسم لأبنائهم وحفدتهم المهووسين بالتبوريدة على الطريقة الشرقاوية بقبيلة الشراردة.