في شهادة للنقيب الصديقي: محمد اليازغي مناضل صلب وكبير

في شهادة للنقيب الصديقي: محمد اليازغي مناضل صلب وكبير محمد اليازغي والنقيب محمد الصديقي(يسارا)
نظمت مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد يوم 5 ماي2023 بالرباط حفلا تكريميا للأستاذ محمد اليازغي ساهمت فيه العديد من الوجوه السياسية والأكاديمية والحقوقية، وفي هذا السياق قدم الأستاذ النقيب محمد الصديقي (أحد أصدقاء ذ. اليازغي ورفيقه في درب النضال السياسي لأزيد من نصف قرن) شهادته في المحتفى به تنشرها "أنفاس بريس" كاملة:
 
ترجعُ معرفتي بالأخ محمد اليازغي إلى بداية الستينات من القرن العشرين.... كنا نلتقي كثيرا في الأنشطة التي ينظمها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية - الحزب الذي كنا ننتمي إليه معا منذ تأسيسه، سواء في الإطار السياسي الصرف أو الإطار التنظيمي وكذا في الأنشطة الإعلامية والحقوقية، كما أنه كان يزورنا من حين لأجر بمقر جريدة "التحرير" التي كانت لسان الحزب يومذاك بالدار البيضاء وكنت مسؤولا داخلها عن سكرتارية التحرير، حيث كان بيتنا ما كان يعانيه من مضايقات وملاحقات من طرف الأجهزة السرية وكذا حتى من طرف بعض المسؤولين في الإدارة التي كان يشتغل فيها.
لكن هذا لم يكن هو الجانب الوحيد فيما عاناه الأخ اليازغي في الستينات، بل إنه لا يقاس مع الاعتقالات التعسفية التي كان ضحية لها في نفس الفترة والتي كان من أقساها اعتقاله في إطار الحملة التي شملت كثيرا من الأطر الاتحادية والمناضلين الحزبيين في عدة مناطق بالمغرب وعلى الخصوص في مدينتي مراكش والدار البيضاء بدعوى اكتشاف تنظیمات سرية تستهدف المس بسلامة الدولة.
وكان أهم ما تميزت به تلك الاعتقالات هو ما رافقها من تجاوزات خطيرة لمدد الوضع تحت الحراسة لدى الضابطة القضائية والتفتيشات مع ممارسة الكثير من أشكال التعذيب والإكراه للحصول على اعترافات مزيفة للمناضلين.
وبعد إحالة الجميع على قضاء التحقيق بالمحكمة العسكرية تبين بعد أسابيع عديدة أن القضية ليست من اختصاص القضاء العسكري، وهو ما ترتب عنه إيقاف التحقيق أمام هذه المحكمة وإحالة الجميع من جديد على قضاء التحقيق بالمحكمة الإقليمية بمراكش. مما أدى في النهاية إلى إحالة كل المعتقلين على هذه المحكمة التي استمر عرض القضية أمامها من 71/6/14 إلى 71/9/17 حيث تم النطق بأحكام متفاوتة من الإعدام إلى السجن لعشرات السنين وبعض الأحكام بالبراءة كان من حسن حظ الأخ اليازغي أنه كان واحدا من المستفدين منها.
لكنه كان عليه ألا ينتظر أكثر من سنة ونصف لإبلاغه رسالة جديدة مؤداها أننا في هذه المرة لن تقتادك إلى أي مركز شرطة أو إلى أي مسحن وإنما نريدك أن تنتقل من هذه الدنيا الفانية بالمرة...
كان عليه أن ينتظر يوم 13 يناير 1973 ليتوصل في بيته عن طريق البريد بطرد ملغوم كان يستهدف حقه في الحياة من الأصل، ولكن لطف الله أحاط به مما جعل الإصابات التي لحقته رغم خطورتها لم تكن تصل إلى الحد الذي يحقق مطامح مرسلي الطرد.
وكان قد قدر لي أن أعيش الليلة الفاصلة بين يومي 12 و13 يناير 1973 ليلة بيضاء تحت سماء مدينة القنيطرة بين سجنها المركزي وأحد التلال الموجودة خارجها، لأن النيابة العامة بالمحكمة العسكرية أشعرتني يوم 12 من الشهر مع باقي المحامين اللذين آزروا العسكريين الضالعين في محاولة الانقلاب الثانية التي وقعت يوم 16 غشت 1972 بأن علينا أن نكون مستعدين لمرافقة الهيأة القضائية مساء ذلك اليوم إلى السجن المركزي بالقنيطرة لحضور عملية تنفيذ الأحكام بالإعدام الصادرة في حق المتورطين، كما توجب ذلك القواعد القانونية المتعلقة بتنفيذ أحكام الإعدام بعد رفض طلبات العفو المقدمة من طرفهم إلى الملك المرحوم الحسن الثاني.
وهكذا توجهنا بعد منتصف الليل صوب مقر السجن المركزي بالقنيطرة حيث
أحذت السلطات القضائية في القيام بالإجراءات التي تدخل في اختصاصها كما قمنا من جهتنا، كمحامين بزيارة المعتقلين في زنازاهم ليبلغونا مطالبهم الأخيرة إلى الجهات المعنية وإلى عائلاتهم على الخصوص. وعند الفجر غادر الجميع السحن المركزي إلى خارج المدينة حتى وصلنا إلى بعض التلال المتواجدة هناك. فأنزل السجناء الشاحنات وطلب منهم الاصطفاف في صف واحد.. وبادر الجنود المدججون بالسلاح إلى أحد أماكن من التصويب، ولم يمر إلا وقت قصير حتى أخذ الرصاص يلعلع في القضاء القريب من المعتقلين ليستقر في رؤوسهم حتى السقوط واحدا تلو الآخر.. وما كان أفساء من منظر بليس للغاية! إنسانيا....
وكان علينا إثر ذلك أن نتوجه نحو سياراتنا لترجع من حيث أتينا. وحوالي الحادية عشرة من صباح يوم 13 يناير 1973 وصلت إلى منزلي، وتوجهت مباشرة إلى جهاز الهاتف حيث اتصلت بالكاتب الأول لحزبنا المرحوم عبد الرحيم بوعبيد لأبلغه كيف قضيت الليلة الفارطة وما عانيت طوالها .... لكني وجدته في حالة أسوأ من حالتي كما تبين لي من حديثه معي وما حكاه لي من تفاصيل الاعتداء الذي تعرض له الأخ اليازغي في ذلك الصباح لذلك فإني لم أنتظر طويلا بعد انتهاء هذه المكالمة حتى بادرت إلى الخروج من المنزل للتوجه لعيادة الأخ المصاب. ولما وصلت إلى قسم المستعجلات بمستشفى ابن سيناء وجدت الأخ اليازغي ممددا على أحد الأسرة وآثار الإصابات ما تزال بادية على بعض أطرافه ورئيس القسم الدكتور السعيد بلافريج واقف على رأسه يمده من فينة إلى أخرى بهذا الدواء أو ذاك وهو يحاول تهدئة روعه وإلى الجانب الآخر من الفراش تقف زوجته الفاضلة الأخت سعدى بلافريج وهي تقوم من جهتها ببذل ما تستطيع من جهد للتخفيف عن الأم جسم رفيقها المثخن بالجراح. أحداث مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة.
هذه الجراح التي لم تكن كافية لتشفع له حتى نقلت من اعتقال جديد... هو اعتقال تعسفي آخر في إطار الحملة الشرسة التي شملت من جديد عشرات المناضلين والقياديين من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على إثر الأحداث المعروفة باسم أحداث مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة.
وكما هي القاعدة، فإن التعذيب والتنكيل الأكثر تطورا في أسالييه ووسائله هو ما كان ينتظر جميع المعتقلين الذين استمر وضعهم تحت الحراسة النظرية لدى الشرطة أسابيع
وأسابيع أي طيلة ثلاثة أشهر من مارس إلى يونيو 1973 حيث لم يقدموا إلى المحكمة العسكرية التي انعقدت بالقنيطرة إلا في الأسبوع الأول من يونيو 1973 وبالتهم التقليدية
المفبركة... المؤامرات.. والاعتداء على النظام .... وكانت المفاجأة غير المنتظرة هو أن الحكم الذي أصدرته هذه المحكمة في نهاية غشت 1973 قضى بالبراءة في حق عدد غير قليل من الأطر القيادية للحزب بمن فيهم الأخ محمد اليازغي والشهيد عمر بنجلون، وآخرون وهو ما أثار حفيظة الحاكمين إلى حد إيقاف الأحكام الصادرة باسم جلالة الملك ورفض الإفراج عن المبرئين بل وقع الاحتفاظ بهم داخل السجن المركزي طيلة اليوم الذي صدر فيه الحكم وإلى غاية ما بعد منتصف الليل حيث جرى حشرهم من داخل السجن في شاحنات عسكرية قادتهم إلى أماكن اعتقال جديدة وسرية دام احتجازهم فيها أكثر من تصف سنة.. حتى أدت الأوضاع السياسية الداخلية في إسبانيا إلى خلق أوضاع إقليمية جديدة في المنطقة جعلت المسؤولين يفكرون في البحث عن مخرجات توفر الشروط الدنيا لخلق تعبئة وطنية لمواجهة السياسة الإسبانية في الصحراء المغربية وهو ما ترتب عنه انفراج مكن من طي ملف أحداث مولاي بوعزة والإفراج عن الأطر القيادية المحكوم ببراءتها.
وهذه المرة ... لم يكن على الأخ اليازغي محمد أن ينتظر مرور عام ونصف فقط، بل مرور ست سنوات لتعود آلة القمع إلى البحث عنه مجددا والعودة به إلى المقر المعروف.. سجن لعلو في الأسبوع الثاني من شهر شتنبر 1981.
وفي هذه المرة لم يكن المستهدف هو أطر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومناضلوه بل قيادته العليا ممثلة في المكتب السياسي وعلى رأسه الكاتب الأول للحزب القائد التاريخي للمعارضة الاتحادية المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الذي كان أول من اتجهت إليه الشرطة وقامت باحتجازه من باب بيته في ساعة متأخرة من مساء يوم 1981/9/8 وفي عملية اعتقال هجينة أشبه ما تكون بعملية اختطاف بعيدا عن قواعد الشرعية القانونية والنظامية.
أما الأخ اليازغي فإنهم لما يحثوا عنه اكتشفوا أنه غير متواجد بمنزله، فأصدروا مذكرة بحث في حقه، واستقدموا من الدار البيضاء ومراكش الأخوين محمد منصور والحبيب
الفرقاني.
وبعد مرور يومين تلقيت اتصالاً من الأخ اليازغي يطلب مني فيه أن التحق به في منزل أحد الإخوة لمرافقته لوكيل الملك تجنبا لاصطياده من طرف الشرطة.
وفعلا، فإني انتهزت فرصة غياب سيارة الشرطة عن باب منزلي في الصباح الباكر من اليوم الموالي وهي التي كانت تلاحقني وتطاردني في كل شوارع وأزقة الرباط طيلة الأيام الثلاثة الماضية، فغادرت المنزل من الباب الخلفي للدار وانطلقت مسرعا إلى المنزل الذي يتواجد به الأخ اليازغي حيث التحق بي مسرعا إثر وصولي فأركبته في المقعد الخلفي للسيارة وانطلقت به نحو مقر المحكمة الابتدائية بالرباط وبالضبط في مدخلها الخلفي الذي يوجد بزنقة الهند. وهنا التحقنا معا بمكتب وكيل الملك في الطابق الأول، حيث طلبت من رجل الأمن الذي يحرسه إشعار السيد الوكيل بأن نقيب هيئة المحامين بالرباط يرغب في مقابلته رفقة أحد موكليه.
وما أن فتح الباب والتحقنا بداخل المكتب حتى وحدنا الوكيل واقفا ينتظرنا وهو ينظر من طرف خفي إلى الموكل الذي سرعان ما تعرف عليه، فدعانا للجلوس وطلب حضور كاتب الضبط الذي قام بتسجيل محضر الاستجواب الأول الذي أشعر خلاله بما هو موجه إليه من العام مع إعلامه في الأخير بأنه سيتم وضعه رهن الاعتقال الاحتياطي بالسجن المدني وأنه سيعرض على هيئة الحكم صبيحة يوم الغد رفقة بقية الأخوة الذي سبقوه.
وفي يوم الجمعة 1981/9/11 مثل الكاتب الأول للحزب ورفاقه أمام هيئة الحكم بالمحكمة الابتدائية بالرباط محاكمتهم بتهمة القيام بأعمال من شأنها المساس بالأمن العام. ما هي هذه الأعمال؟ هي مجرد إصدار بلاغ يعبر عن موقف الحزب وتخوفاته المشروعة من التدابير الواردة في مقرر نيروبي الذي وافق عليه المغرب لقبول إجراء الاستفتاء في الصحراء المغربية هي إذن محاكمة وتصريح رأي حزب من الأحزاب الوطنية الكبرى في البلاد. محاكمة ترتكز على ظهير كل ما من شأنه الذي كان قد صدر سنة 1935 لمحاربة الحركة الوطنية ومقاومتها للاستعمار.
وقد استمرت المحاكمة إلى غاية يوم 1981/9/24 الذي صدر فيه الحكم بسنة واحدة حبسا نافذا في حق الكاتب الأول للحزب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد والأخوين الحبابي واليازغي وسنتين حبسا موقوف التنفيذ في حق الأخ محمد منصور وسنة واحدة حيسا موقوف التنفيذ في حق الأخ الحبيب فرقاني.