مقدمة تذكيرية لا بد منها:
اعتمادا على مرجع (قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي) التي قدمها وحققها المرحوم العلامة محمد المنوني بمجلة "الباحث" الصادرة بالمجلد الأول سنة 1972، يسلط الكاتب الضوء على مواصفات وشروط "اَلْمَشْيَخَةْ"، وصفات الشخص الذي يحمل لقب "الشِّيخْ" المعلم بمدرسة الرّماية؟ حيث أورد في الفصل الرابع الذي تحدث فيه عن صفة الشَّيْخ الذي يلقن ويعلم أصول الرماية ما يلي:
"اعلم أن منصب الرماية منصب شريف، ونعمة عظيمة". وشدد المؤلف على أن "الرّامي" الملتزم والمنضبط لأصول وعادات وتقاليد الرماية الشعبية في الجنوب المغربي، التي كان "الأَشْيَاخْ" يعملون بها في حقل الرماية، لا يمكنه قطعا الإنسلاخ عن سُنَّتِهَا، والتنكر لمبادئ شيخه ومعلمه، حيث أوضح في هذا الباب بقوله: "إن من ترك الرَّمْيَ بعدما تعلمه، فقد ترك سُنَّة"، وفي رواية "فقد ترك نِعْمَة".
ويستطرد المؤلف موضحا نعمة الرماية الشعبية في الجنوب المغربي بقوله: "فإذا علمت أنها من النّعم التي يجب الشكر عليها، فعليك أن تبادر إلى شكرها بالنّية الصالحة في تعلمها لنفسك، فإذا فسدت نيّة الشّيخ، قلّ من ينتفع على يديه، والغالب على أشياخ زماننا فساد نيتهم...".
إن الرماية الشعبية بالجنوب المغربي كانت تخضع لعدة شروط لابد من احترامها والعمل بها في ميدان الرماية، حيث يتم ترسيخها من طرف الشّيخ/الْمُعَلِّمْ، الذي أنيطت به مأمورية ومهمة تعليم وتلقين أصول الرماية للراغبين فيها. لذلك أورد المؤلف في المصدر المذكور بقوله: "وأعلم أن الرماية لها ثلاثة شروط". مؤكدا على صحتها وترابطها قولا وفعلا: "لابد من هذه الشروط للشيخ وللمتعلم، فإن ترك شرطا من هذه الشروط بطلت رمايته، وكانت ناقصة البركة، ولا ينتفع أحد على يده". واعتبر أن الشرط الأول يتمثل في "النِّيَّةْ، فمن لم يكن له نِيَّةْ لم ينتفع بشيء". ثم انتقل إلى شرط "اَلْمَحَبَّةْ، من لم يكن له فيه مَحَبَّةْ لم ينتفع بشيء"، وبعدها شرط "التَّسْلِيمْ، من لم يكن فيه التَّسْلِيمْ ويكون قلبه صافيا على كل أحد، يحب للناس ما يحب لنفسه، لا ينتفع بشيء، ولا ترجى فلاحته".
سلوك مرفوض يدق ناقوس الخطر بميدان التبوريدة
ما دفعني لإعادة الكتابة في حقل التّْبَوْرِيدَةْ الذي يعد من أرقى وأجمل التراث اللامادي المغربي، (بدليل أن منظمة اليونسكو أدرجتها ضمن قائمة التراث الإنساني)، هو فضيحة ما وقع أثناء الإقصائيات الجهوية بمدينة كلميم (باب الصحراء)، حيث تفاجئ الجمهور وعموم المتتبعين بالملايين، عبر تطبيق النقل المباشر للمنافسات، بأحد عَلَّامَةْ السَّرْبَاتْ وهو يكيل السّب والشّتم لجميع فرسان السّربة دون أن يفطن للميكرفون الشغال على المباشر، حيث قال بالحرف: (الله يَنْعَلْ لِيكُمْ الْوَالِدِينْ). نتيجة عشوائية مرور عَلْفَتِهْ أمام لجنة التحكيم.
أولا، سواء كان سلوك السّب والشّتم علنيا أو في الكواليس بشكل متستر، فهو سلوك غير مقبول ومرفوض بشكل قطعي، على اعتبار أن فن التبوريدة ورياضة ركوب الخيل ارتبط تاريخيا بالمغرب بقيم التربية والأخلاق الحميدة، وقيم الاحترام والكرامة وعزة النفس والنخوة التي تعكس حقيقة صورة مْقَدَّمْ السَّرْبَةْ وفرسانه الذين يقدمون عروضهم الفرجوية / والتراثية لها علاقة بموروثنا الحضاري الديني والجهادي والتربوي والأخلاقي منذ قرون خلت.
ثانيا، من المفروض واللازم أن قائد كتيبة فرسان التبوريدة (لَمْقَدَّمْ) هو المسؤول الأول والأخير عن سلوك مكونات السَّرْبَةْ، وهو القائد والمعلم الذي يتحكم في فرقة البَّارْدِيَّةْ، سواء داخل لَوْثَاقْ أو على جنبات الْمَحْرَكْ، أو خلال تقديم عروض التبوريدة (سواء في المواسم أو المهرجانات أو في منافسات وإقصائيات معينة)، فكيف يمكن أن يتقبل الجمهور انحراف "عَلَّامْ الْخَيْلْ"، ويخرج من فمه كلام سفيها ومبتذلا؟ وكيف هو السبيل لفرض النظام والانضباط والالتزام على باقي فرسان السَّرْبَةْ؟
ثالثا، الفضيحة التي وقعت مؤخرا بمدينة كلميم (السب والشتم أمام الملأ) اعتبرها شخصيا النقطة التي أفاضت الكأس، أو بعبارة أدق الشّجرة التي تخفي الغابة، على اعتبار أن هناك ممارسات وسلوكات شاذة تمارس من طرف بعض مْقَادِيمْ السَّرْبَاتْ، وبعض الفرسان سامحهم الله (وأنا هنا لا أعمم طبعا فهناك فرسان ومقدمين نكن لهم التقدير والاحترام). هذه السلوكات امتدت نار تطفّل البعض على الميدان لتلتهم ما تبقى من أوراق شجرة أنساب فن التبوريدة بمختلف روافد مدارس وطرق اللعب المعروفة، بعد أن فُتِحَ الباب على مصراعيه لـ "مُولْ الشْكَارَةْ" للاستثمار في فن التبوريدة دون شروط مسبقة تمتح من ينبوع "مَشْيَخَةْ" وشُيُوخْ التبوريدة المغربية.
فضيحة مشابهة لكنها أكثر خطورة
سأدرج هنا واقعة ترتبط باستعمال الميكرفون من طرف مْقَادِيمْ السَّرْبَاتْ في بعض المهرجانات الخاصة بالتبوريدة، حيث أذكر أن أحد "العلامة" كان ينتظر دور النداء عليه من طرف لجنة التنشيط لتقديم عرض السَّرْبَةْ داخل المحرك، لكن نظرا لتواجد عدد كبير من السَّرْبَاتْ، لم يطل صبر "الْعَلَّامْ" فتوجه على صهوة جواده نحو بائع السجائر بالتقسيط وطلب منه سيجارة شقراء و ورقة (النِّيبْرُو) لتدخينها محشوة بالحشيش، وقام بسلوكه المشين أمام أنظار شهود عيان، وتأكد الأمر عبر أثير مكبر الصوت. (اعْطِينِي وَاحَدْ وِينْسْتُونْ و وْرِيقَةْ).
أعلم طبعا أن تدخين السجائر والحشيش سلوك متفشي بين بعض الفرسان الشباب، لكن الواقعة التي ضبطتها شخصيا وأنا في خضم تنشيط فعاليات مهرجان معين، دفعتني لانتقد هذا السلوك عبر مكبر الصوت أمام الجمهور العريض وفي حضرة المئات من الفرسان، دون أن أذكر اسم "الْعَلَّامْ" الذي أساء لنفسه قبل غيره، حيث أعطيته درسا في الأخلاق من أجل احترام أصول التبوريدة، واحترام صهوة الحصان ومحرك سنابك الخيل والبارود. وذكرته بطقوس وتقاليد ركوب الخيل التي تتأسس على الطهارة واليقظة ونباهة الفارس.
وحسب تواصلي الدائم والمستمر مع عدد هائل من الفرسان المحترمين والعلامة الذين تمرسوا على التبوريدة و ولجوا لعلامها عبر التدرج والاحتكاك بشيوخها الرواد من مختف مناطق المغرب، وتشبعوا بدروس شُيُوخِهِمْ على جميع المستويات، استنتجت أن الأمر يستدعي الصرامة والحسم مع كل السلوكات الغريبة والدخيلة على عالم التبوريدة، وضبط شروط الإنتماء إليها كرياضة وفن وفرجة شعبية تراثية ذات قيمة عالية جدا.
نموذج يحتدى به في الصرامة والانضباط والالتزام
اعتبر جمعية شباب تكنة، التي يترأسها الفاعل الجمعوي سعيد بيتور، والتي حملت مشعل المحافظة على طقوس وعادات وتقاليد الشراردة في حقل التبوريدة (تنتمي لمجال الشراردة بإقليم سيدي قاسم)، جمعية نموذج يحتدى به، على اعتبار أنها تعمل بموجب قانون داخلي ينظم ويضبط العلاقات بين كل مكونات سربة لمقدم عبد الله بن أبيه، ومن بين فصول قانونها التي تلزم الجميع تلك التي تتعلق بسلوك الفارس وصورته أمام الجمهور، وخلال المواسم والمهرجانات الوطنية، وكل من خرق أو عاكس القوانين التنظيمية يتم إخضاعه للمساءلة والعقاب طبقا لذلك (الغرامة المالية ـ إقامة مأدبة عشاء على شرف فرسان السربة ..) وهناك فصل ينبه إلى إجراء الطرد النهائي من السربة والجمعية. قد يقول قائل أن السربة تتكون من أفراد عائلة واحدة وأبناء عمومتهم وأقربائهم وأصهارهم، نعم هو كذلك وهذا هو سر نجاحها وتألقها في العديد من المهرجانات.
ملاحظة : في الحلقة القادمة نقدم لكم قصة عقاب أحد الفرسان بسربة شباب تكنة.