لم يعد الفلاحون المغاربة ينتظرون هطول المطر، ولا العمال يترقبون الزيادة في الأجور. الجميع ينتظر إطلاق عملية إنقاذ واسعة من الجوع، ما دامت المواد الأساسية تحتاج إلى من يحررها من الزيادة في الأسعار، وإلى من يُخَلِّصها من سماسرة الأغذية، ومن الشلل الحكومي المستعصي الذي اكتفى برفع يده من أي محاولة لتصحيح معادلة الأسعار، تجنبا لكل ما يمكنه أن يهدد الأمن الغذائي والاجتماعي للمغاربة.
لقد أثبت رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، أنه خاسر كبير في كل حرب، كما أثبت أن الاحتماء بالأسلاك الشائكة المكهربة في الخطاب ليس حلا ناجعا لدحض الواقع الذي أصبح يعيشه المغاربة على نحو غير مسبوق، إلى درجة أن أجراس الاحتجاج الشعبي اتسع نطاق سماعها في كل الأرجاء. والمسؤول الأول والأخير على هذا الغضب ليس إلا رئيس الحكومة الذي قدم في الانتخابات التشريعية (شتنبر 2021) استعراضا اقتصاديا جعل المغاربة يصدقون أن "الوطن لا يحتضر".
لقد قال حرفيا في الدورة الرابعة لـ "جامعة شباب الأحرار"، التي انعقدت بأكادير، إن "تجاوز الأزمة لا يمكن أن يتأتى بالفهامات والهضرة الخاوية، احنا الناس اختارونا لأنهم عارفين منين جينا وفين كبرنا وعلاش دخلنا للسياسة، ويعرفون أننا نتحلى بالوطنية الصادقة والحب الصادق لهذا البلد وللملك والمغاربة، ونريد بلدنا في مراتب متقدمة، لأن لدينا جميع ظروف النجاح". فأين هو النجاح الذي يتحدث عنه المسؤول الحكومي الأول؟ وأين هي الحكامة التي يتحدث عنها؟ وأين هي الوطنية الصادقة؟ وأين هو فن إنجاح المقاولة؟ وأين هي الثروة التي وعدنا بجلبها إلى البلاد؟
لقد نجح أخنوش في الرفع من تهديد الجوع، علما أنه المسؤول المباشر عن "المخطط الأحضر" الذي يفترض أن يحقق للمغرب أمنه الغذائي، كما نجح في تغطية الحقول الزراعية الوطنية بالصادرات عوض سنابل الاكتفاء الذاتي، وفي الصمود على الكرسي، والتصدي لكل من يقترب منه، ولو كان السلاح هو الافتراء والمغالطة والأكاذيب التي لم تعد تنطل على أحد. بيد أنه لم ينجح في تمزيق دفاتر الوعود الحكومية التي داوم على إطلاقها في كل مناسبة، وها هي شاهدة على فشله الذريع والمشين.
لقد وعد أخنوش بأنه سيستيقظ قبل الجميع لتدعيم ركائز الدولة الاجتماعية وخلق فرص شغل للجميع، والحكامة. وعد بـ "مدخول كرامة" لفائدة المسنين، يستفيد منه البالغون 65 عاما فما فوق، ولا شيء تحقق. وعد بمنح الأسر المعوزة تعويضات تبلغ 300 درهم لكل طفل في حدود ثلاثة أطفال لدعم التمدرس، ولا شيء تحقق؛ وعد بتقديم دعم مدى الحياة للأشخاص في وضعية إعاقة، ولا شيء تحقق؛ وعد بجعْل نسبة النمو 4 في المئة عبر مجموعة من الإجراءات المبتكرة، وخلق فرص الشغل وخفض معدلات الفقر وغيرها، ولا شيء تحقق؛ وعد بإحداث "الدخل الاجتماعي لتماسك وكرامة الأسر المغربية"، والمتعلق بمنحة ولادة قدرها 2000 درهم للطفل الأول و1000 درهم للطفل الثاني، ولا شيء تجقق؛ وعد بإحداث مليون منصب شغل، ولاشيء تحقق؛ وعد بإخراج مليون أسرة من الفقر والهشاشة، ولا شيء تحقق، بل إن الضغط ازداد على الأسر المغربية بسبب الارتفاع المستمر للأسعار وإثقال كاهل الأسر وقدرتها الشرائية، حيث سجلت المندوبية السامية للتخطيط أن أزيد من 79% من الأسر تدهور مستوى معيشتها، إضافة إلى تدهور الوضع المالي لأزيد من 50 % من الأسر.
وإذا كان البعض يرجع هذا الفشل إلى سوء حظ أخنوش الذي "عاكسه" الجفاف وموسمية المنتجات الزراعية والسياق الدولي المتأزم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وسباق الزعامة بين أمريكا والصين، فإن هذا الكلام مردود عليه من جهتين:
الجهة الأولى هي التصريحات الأخيرة لأحمد الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، الذي أكد «زيادة الأسعار ستصبح هيكلية في المغرب» و«أننا اليوم ننتج أقل مما كنا ننتج سابقا، لذلك يوجد مشكل حقيقي في العرض»، كما أن «التضخم في المغرب لا يرجع إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية في الأسواق الدولية، ولكنه مدفوع بشكل أساسي بارتفاع أسعار المنتجات الغذائية، التي يتم إنتاجها محليا في المغرب»، إضافة إلى أنه «يجب الاعتراف بأن التضخم أصبح حقيقة هيكلية داخل الاقتصاد المحلي، ويجب التعايش معه، ومواجهته بثورة في نظام الإنتاج».
إن الخلاصة التي توصل إليها المندوب السامي للتخطيط ترتبط ارتباطا وثيقا بالجهة الثانية، ويتعلق الأمر بالفلاحة التي قال إنها تحتاج إلى «ثورة حقيقية لتغيير نظام الإنتاج، والعمل سريعا لتحقيق السيادة الغذائية، وإنتاج ما نستهلكه أولا، مع تحقيق أقصى قدر ممكن من التقدم التقني والتكنولوجي لتحسين مردودية الإنتاج». فمن أوصل المغرب إلى هذا الوضع، وإلى هذا الضغط الكبير على مستوى الأمن الغذائي؟
لقد قضى أخنوش، قبل أن يصبح رئيسا للحكومة، 15 سنة على رأس وزارة الفلاحة، أي أن مسؤولية بلوة الاستراتيجية الغذائية كانت ملقاة على عاتقه لتكون البلاد في منأى عن أي أزمات منتظرة، خاصة أن المغرب من البلدان التي تعاني من الجفاف والندرة المائية، كما أنه، وهذا هو الأساس، هو مهندس المخطط الأخضر والمشرف على تنزيله، وهو المخطط الذي ظل يرعاه منذ منذ 2007، مع حكومة عباس الفاسي. حيث استعان الوزير أخنوش، آنذاك، بمكتب دراسات أميركي لإعداد هذا المخطط الاستراتيجي. وهو المخطط الذي تبنّته حكومتا الإسلاميين «عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني» قبل أن يتبوأ وزير الفلاحة منصب رئيس الحكومة، وهو ما يطرح أكثر من سؤال إذا علمنا أن من يقود تدبير الشأن العام هو المسؤول الأول عن الأزمة الغذائية التي يمر منها المغرب، وهو المسؤول الأول عن غلاء الأسعار، رغم أنه يعتبر أن الأزمة الحالية «أزمة مستوردة» و«عابرة» و«مؤقتة»، وأن ارتفاع الأسعار قضية مرحلية.
لقد سبق لعزيز أخنوش أن التزم أمام المغاربة بتحقيق «ثورة في القطاع الفلاحي بالمغرب»، وأن مخططه الأخضر سيحقق 100 مليار درهم كثروة إضافية للقطاع، في أفق 2020. بيد أن أخنوش، الذي كان يشرف على المخطط، عاجز الآن عن تحقيق الأمن الغذائي، مما يضع أمننا الاجتماعي في خطر، بل إنه يهدد الاستقرار السياسي للبلاد، ما دامت رقعة الغضب تتسع، وما دام التوتر آخذ في التصاعد في صفوف شريحة واسعة من المواطنين، بمن فيهم الطبقة المتوسطة. ذلك أن المخطط الأخضر ركز وجوده، ليس على تأمين الحاجات الأساسية للمغاربة، بل على رفع الإنتاج الفلاحي الموجه نحو التصدير بكلفة مائية باهظة، مما جعل المواطن المغربي، في الكثير من الأحيان، يشترى منتجات محلية (الطماطم، البصل، البطاطس، الفلفل الأحمر، السردين..) بأثمنة تفوق سعر بيعها في الدول الأوروبية.
فماذا سينتظر هذا المواطن من رئيس حكومة كان هو السبب المباشر في الأزمة الحالية؟ وبماذا سيبرر أخنوش هذا الفشل الذريع في تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني في المواد الأساسية؟ وكيف يمكن للمواطن أن يقتنع بأن رهينة لتقلبات الأسعار الدولية؟
لقد ظل عزيز أخنوش رافضا لأي تقييم لمخططه الأخضر وها الأزمة تكشف المستور، حيث تحذر كل التقارير، بما فيها تقرير المندوبية للتخطيط، من ندرة المواد الغذائية وغلائها الفاحش، مما يقتضي التخلي عن «مخطط أخنوش الأخضر» نحو مخطط استراتيجي وطني يمنح الأولوية للمواطنين المغاربة، بدل التعامل مع الوطن كمقاولة إنتاجية. لقد كان المغرب بلدا فلاحيا يصدر الحبوب والتمور والزيوت، غير أن إمساك أخنوش بمقود الحكومة، جعله يدبر البلاد بمنطق «الطاشرون» الذي يبحث عن «الصفقات الرابحة»، ناسيا أن تدبير الشأن العام ليس مجرد قرارات للإمضاء، بل ممارسة سياسية لتدبير مرحلة بكل تعقيداتها في أفق حلحلة الوضع وإيجاد الحلول لكل المشاكل القائمة، وتحمل مسؤولية القرارات والمآلات أمام المواطنين. كما يعني التحلي بالنزاهة الفكرية والأخلاقية، فضلا عن الجرأة على «النقد الذاتي».
لقد وضع عزيز أخنوش الشعب على مسافة، وعوض أن ينتج «الثروة» التي وعده بها، انخرط في إنتاج المزيد من الجياع والمتسولين والفقراء، إلى درجة أن 3500 كلم من السواحل لم تسعف المغارفة في شراء كيلو «سردين» أو «شرن» أو «كبايلة» أو «باجو» بالثمن الذي يليق بالبلد الذي يتوفر على بحرين، وبالمواطن الذي يكابد من أجل تأمين لقمة العيش.
لقد قيل للمغاربة أن ارتفاع الأسعار سببه ارتفاع أسعار المحروقات وتكاليف النقل الباهظة، علما أن عزيز أخنوش هو مول «ليصانص» ويحتكر تقريبا ثلث السوق الوطنية للمحروقات، وها نحن نعاين اكتواء المغاربة بلهيب المازوط بدون رادع أو رقيب وبدون أن تتنازل الشركات الكبرى عن هامش ربحها أو تتبرع بفوائضها الفاحشة لامتصاص عجز الميزانية. بل كل ما فعله هو أنه وضع «ثروته» خلف المتاريس، وترك الحبل على الغارب ليكتوي المواطنون بالغلاء دون قيد وشرط. وهو ما انتبه إليه تقرير لمجلس المنافسة الذي أفاد بوجود تواطؤات بين موزعي المحروقات، واستغلال فاحش لتحرير قطاع المحروقات، في ظل غياب قوانين ضابطة، مما نتج عنه بالفعل ارتفاع لأسعار المواد الغذائية الأساسية، فضلا عن احتداد الغضب الاجتماعي واتساع الفوارق.
لقد دعا الملك محمد السادس، في خطاب عيد العرش (30 يوليوز 2022) إلى تجنب التماهي في المصالح الفردية على المصالح العامة. غير أن ما نعاينه على أرض الواقع مع رئيس الحكومة هو أنه يستثمر في الاحتقان الاجتماعي بالقدر نفسه الذي استثمر ويستثمر في قفة المواطنين، وفي قطاع المحروقات، مما يفرض لنزيل «فتيل الانفجار الأخير» الابتعاد عن الاستثمار في الأزمة ، ووضع خطط واستراتيجيات لمعالجة "الوضعية الاجتماعية الهشة لشرائح واسعة من الشعب قبل أن يتطور الأمر من "الاحتجاج الهادئ" إلى «الاحتجاج العنيف».
لقد أثبت تطورات الاحتجاج في المغرب أن المواطنين فقدوا الثقة في الوسائط السياسية، سواء أكانت أحزابا أم نقابات أم جمعيات، مما يشكل تهديدا حقيقيا على النسق السياسي بكامله، ذلك أن الرفض يسائل في اللحظة الراهنة زواج المال بالسلطة، ويتجه إلى ضرورة الفصل بينهما تجنبا لتحويل المؤسسات إلى أدوات في أيدي «الطاشرونات»، مما يؤدي إلى أزمات تهدد السلم الاجتماعي.
لقد جيء بعزيز أخنوش، رغم فشله الذريع في تأمين الأمن الغذائي، ورغم إمعانه في إحراق المغاربة بأسعار المحروقات، ليرأس الحكومة ويتولى تسيير شؤون الدولة، والحال أن «مساره السياسي» كاف ليكون هذا المسؤول عنوانا عريضا للفشل والاحتقان. بل إن ذلك كان لنقول إن المغرب لم يستفد من درس روسيا القيصرية التي أدخلت راسبوتين إلى البلاط وقربته عائلة القيصر رومانوف من مراكز القرار وبوأته صلاحيات واسعة، فكان راسبوتين هو سبب هلاك روسيا القيصرية وسبب خراب أسرة رومانوف القيصرية.
فحذار من استنساخ نموذج راسبوتين!!
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"