على إثر المراحل التجريبية المتعثّرة للثورة، تبيّن -والأدلة وفيرة كالنمل- أن إسقاط نظام برمّته، أسهلُ بكثير من حمْل شرائح عديدة من المجتمع على تغيير ولو عادة وحيدة من عاداتها المتخلفة، وخصوصا منها تلك التي تُمجّد "فضائل" الطاعة والعبودية، وتبجّلُ المعجزات والخرافات على الآداب والعلوم.
لهذا، وربحا للوقت الذي لا يرحم، فإن المرحلة الحالية، تقتضي شنّ "حربٍ" فردية على كل ما هو مجتمعيّ متخلّف.. ذلك أنّ للأفراد حقوقا على مجتمعاتهم، ومن بين تلك الحقوق احترام المسافة الزمنية والأشواط الذهنية التي تفصل الفرد عن القطيع مُمثلاٌ في هذا الغول المسمّى: "مجتمعا".
ليكن المفكرون والأدباء والفنانون والسياسيون المبدعون في طليعة "المقاتلين" والمقتولين... وليذهب المجتمع إلى جحيم آخر غير هذا الذي يستمتع في بحبوحة نيرانه الآن.
عندما نتحدث عن الأفراد فإننا لا نقصد النخب، سواء أكانت أحزابا أم اتحادات أم جمعيات أم أزواجا،.. بل نقصد الفرد تحديدا:
الفردَ مُضافا إلى ظلّه على أقصى تقدير.
الفرد الحرّ.
الفرد المبدع.
الفرد الواقف في حذائه.
الفرد الذي لا يعترف لا بالماضي ولا بالمستقبل إلا باعتبارهما موجوديْن ومُكثّفيْنِ في اللحظة الخلاقة التي يعيشها لنفسه بمقدار زهيد، وللآخرين بمقادير جمّة.
لقد بات معلوما أنه لا وجود لزمن خارج اللحظة.
كما أنه لا وجود لخط خارج النقطة.
وبالنتيجة.. فلا وجود لسماء خارج الأرض ولا وجود لسماء خارج وعي الإنسان بأنها سماء.
تشتغل النخبُ، عادةً، في حقليْ الشقاق والوفاق، طبقا لما يقتضيه نَهَمُ السلطة ووهمُ الايدولوجيا، وهذان الحقلان هما المرادفُ الأكثر ملائمة لمفهوميْ التسلط، من ناحية، والحس العام الذي يتلخّصٌ في النفاق، من ناحية ثانية.
ويشتغل الفرد المبدع في القطائع الأكثر حِدّةً ومَضاءً:
إنه يسير، دائما، مثل بهلوان، على سلك نحاس يربط ما بين قمّتي جبليْن شاهقين ويطلُّ على هاويتيْن مرعبتيْن.
وفي اللحظة التي يصابُ فيها المتفرجون (المجتمع) بالدوار من طريقة سيره الفائقة الجرأة، فإنّه يتآخى مع الموت، طيلة مشواره المحفوف بالمخاطر، علّه يثبت لهم جميعا أنه بالإمكان أحسن ممّا كان، وأجود ممّا يُتوقّع، وأنفع ممّا وَعَدَ به الأنبياء.
أما إذا تعثّر، ووقع، وسقط، ومات.. فتلك جائزته التي تعوّد عليها أسلافه وَوُعِدَ بها أحفاده.
صحيح أنّ الشعب قام بثورة ينقصها "الثوران"، قادتها شعارات مكثفة وأبيات من الشعر، واستولى عليها، في الأخير، لصوص متسكعون على هامش العصر، وعملاء للنظام العالمي الجديد الذي تتلاقى فيه ليبرالية الإسلام بليبرالية الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الشعب ليس المجتمع، نظرا لما للأول من روح ثائرة،، وللثاني من عادات محافظة، وتمايزات بطيئة، وعلاقات عمودية تصعد من الأب إلى الرب، مرورا بالدكتاتور... وشواهد التاريخ أكثر من أن تُحصى في هذا المجال.
لقد بات إعلانُ حق الفرد في أن يُسْرعَ الخطى بالطريقة التي يراها، وألاّ ينتظرَ التحاق مجتمع العدّائين الكسالى به، وحقه في أن يحطّم كل الأرقام القياسية للمسافات القصيرة والطويلة، بات إعلانا مُلحّا، ليس في نظرنا فحسب، بل.. في نظر السلاحف والحلزون أيضا.
على أرض الواقع، سوف تقع ترجمة هذا الحق إلى ضرورة عدم اعتراف الفرد المبدع بأيّ تشريع يحدّ من جموح الخيال، وإلى جعل الحياة ممكنة في أقل من ثانية على أقصى تقدير، وإلى تقديس الحرية دون سواها مما اعتاد المجتمع تقديسه.
ولتكنْ حجّته في ذلك أن جميع المعارك السماوية، التي دارت بين الطائرات والصواريخ المدعومة بخدمات الأقمار الصناعية، وبين الملائكة وطير الأبابيل المدعومة بالعنعنات لا غير، لم تكن في صالح هذه الأخيرة ولو لمرة واحدة يتيمة على مدى التاريخ كلّه.
أما إذا كان للنخب وللمجتمع أدلة أخرى تدحض هذه الحجة، فلتذهب النخب والمجتمع إلى الجحيم مجددا، وليُقَسّمْ البلد إلى مناطق للأفراد الأحرار وأخرى للقطعان الطيعة الأليفة.
إن "استئناف العبودية"،على حدت تعبير أدونيس، يمكن أن يكون مطلبا مجتمعيا طيلة الأعوام القادمة. وقد بتنا نلمس، بالفعل، أنه مطلب مستحبّ لدى بعض الشرائح الاجتماعية من عبيد الأمس واليوم وغدا.
لم تُشيّدْ الإصطبلات للإنسان، ومع ذلك فإن كثيرا من البشر يعيشون قانعين ممسوخين في الزرائب، حيث البغلُ والثورُ والجحشُ والكبشُ والتيْسُ يُكوّنون مجلسَ الوزراء، وحيث عصا الراعي، وحدها، تُشرّع لمواقيت التهام الحشيش.