أحمد الحطاب: وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ

أحمد الحطاب: وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ أحمد الحطاب
عنوان هذه المقالة هو الآية الكريمة رقم 21 من سورة الحِجر.  والآية كاملة هي كالتالي : "وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (الحِجر، 21). ما يُثير الانتباهَ في هذه الآية هي كلمة "شيء". وهي كلمةٌ مستعملةٌ بكثرة في القرآن الكريم. وما دام كلامُ الله موجَّها للبشر، فبالنسبة لعقل هؤلاء البشر، الشيءُ هو كل ما هو موجود فوق/في سطح الأرض ويُدركه الدماغ عن طريق الحواس. وما يدركه الدماغ، يمكن أن يكونَ ملموسا، أي له وجودٌ مادي. كما يمكن أن يكونَ الشيءُ معنويا، أي أن يكونَ مرتبطا فقط بالفكر أو بالنشاط الفكري، أو بعبارة أخرى، مرتبطا بكل ما هو تجريدي أو نظري.
 
أول خطوةٍ قمتُ بها هي الاطلاعُ على ما قاله المُفسِّرون في توضيح معنى هذه الآية. من بين هؤلاء المُفسِّرين، هناك مَن حصر كلمةَ "شيء" في المطر الذي يكون أحيانا وافرا وأحيانا يكون شحيحا وغير متساوي التوزيع. هذا صحيح لأن المطرَ واحدٌ من الأشياء الملموسة أو المادية. لكن الأرض مليئةٌ بالأشياء المادية، حيَّةً كانت أم غير حيَّة ومليئةٌ كذلك، من منظور بشري، بالأشياء (الأفكار) المُدرَكة فكريا وغير الملموسة ماديا. 
ونظرا لتعدُّد الأشياء المادية التي تزخر بها الارضُ ونظرا لتعدُّد وتنوُّع الأشياء المعنوية التي يُدركها فكرُ الإنسان، يمكن توسيع تفسير هذه الآية الكريمة. لكن، قبل هذا التوسيع، لننظرَ ماذا توحيه لنا إذا فسَّرناها حرفيا : "وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ". في أول وهلةٍ، إن مَن يبحث عن توضيحٍ لهذه الآية، سيظن أن اللهَ سبحانه وتعالى يتوفَّر على أماكن يخزن فيها الأشياءَ ثم ينزِّلها إلى الأرض حسب ما تقتضيه حِكمتُه وتقديرُه. بالطبع لا، كما سأبيِّن ذلك في السطور الموالية. ليست الأمورُ بهذه البساطة. بل لا بدَّ من ربطِ هذه الآية بآياتٍ أخرى تبيِّن مدى قدرة الله على خلق الأشياء. من بينها على سبيل المثال :
1."إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (يس، 72). 
2."وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عِمران، 189).
3."...وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة، 18).
ما يجب الإنتباهُ إليه، هو أن كلمةَ "شيء" موجودةٌ في الآيات الثلاثة. وحتى كلمة "ما" في الآية الثالثة، فإنها ترمز للأشياء حين يقول سبحانه وتعالى "وما بينهما" و"يخلق ما يشاء". ماذا يوجد بين السموات والأرض وماذا يخلق جل علاه؟ بالطبع، الأشياء.
الآيات الثلاثة تبيِّن، بوضوح، قدرةَ اللهِ على إيجاد الأشياء وخلقها. فحينما يقول سبحانه وتعالى: "وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ"، فالمقصود بالخزائن هو قدرتُه، جل عُلاه، على خلقِ الأشياء متى يريد وكيفما يريد ما دامت قُدرتُه هذه تتمثَّل في أن يقولَ للشيء كُن فيكون. في هذه الحالة، فخزائن الله من الأشياء لا تنفد ما دام، سبحانه وتعالى، قادرا على خَلقِ الأشياء وإيجادها في حينه.
فلننظر الآن ما المقصود من الجزء الثاني من الآية السالفة الذكر، أي : "وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ". فما معنى "نُنَزِّلُ(هُ)؟". الهاء هنا ضميرٌ متصل ومفعول به يعود على "شيء" أو في محل "شيء" المشار إليه في الجزء الأول من الآية. والتَّنزيل يعني الهبوط من الأعلى إلى الأسفل، أي من الخالق إلى الأرض. لكن، ما هي الأشياء التي شملها ويشملها هذا التَّنزيلُ؟
حسبَ تقديري الشخصي، الأشياء التي شملها ويشملها هذا التَّنزيلُ هي العناصر الضرورية للحياة بالمعنى البيولوجي وكذلك الضرورية لإعمارِ الأرض، من طرَف الإنسان العاقل، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا… 
فيما يخصُّ العناصر الضرورية للحياة بالمعنى البيولوجي، هناك الماء السائل والهواء بمختلف تركيباته الغازية وعلى رأسها الأكسيجين وثاني أكسيد الكربون والحرارة والضغط والجاذبية وضوء الشمس والطاقة. الحياةُ واستمرارُها، من منظور بيولوجي، مرتبط ارتباطا وثيقا بهذه العناصر وبتداخلها وبتوازُنِها. كل عنصرٍ يساهم، بكيفية أو أخرى، في هذا الاستمرار.
فيما يخص العناصر الضرورية لإعمار الأرض، ما تجدر الإشارةُ إليه، هو أننا لم نقرأ في القرآن الكريم أن اللهَ سبحانه وتعالى نزَّل مثلا الحديدَ والفضة والدهب ومختلف المعادن الأخرى. بل إن اللهَ وفَّرَ للإنسان العاقل، في الأرض، كل ما يحتاجه هذا الإنسان العاقل من خيرات مادية (أشياء مادية حية وغير حية) لإعمار هذه الأرض. وهذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى، قبل أن يخلقَ الإنسانَ، وفَّرَ له في الأرض كل ما هو في حاجة إليه لإعمارها تاركا له حرِّيةَ استعمال عقله وتفكيره للاستفادة من ما تحمله هذه الأرض.
ما يثيرُ الانتباهَ، هو أن كل العناصر السابقة الذكر، سواءً تلك التي هي ضرورية للحياة ببُعدها البيولوجي أو تلك التي يعتمد عليها العقلُ البشري لإعمار الأرض، كلها لها وجودٌ مادي أو هي أشياءٌ مادية. فهل هذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يُنزٍّل الأشياء المعنوية؟
قبل الجواب على هذا السؤال، لا بدَّ من الإشارة أن كل المفاهيم التي ابتكرها العقلُ البشري تدخل في خانة الأشياء المعنوية. لكنها متروكةٌ لهذا العقل البشري ليستعملَها كأدواتٍ تقود إلى إعمارِ الأرض. لكن هذا لا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يُنزِّل على عباده الأشياءَ المعنوية. الله ينزِّل الرحمةََ واللُّطفَ والطمأنينةَ والسكينةَ… مصداقا لقوله جل عُلاه :
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوٓاْ إِيمَٰنًا مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ… (الفتح، 4)
ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا… (التوبة، 26)
وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (الإسراء، 82).
فعلا، النفسُ البشريةُ تنعم أحيانا بالسرور والفرح والسعادة…، وأحيانا أخرى، يحيط بها اليأسُ والحُزنُ والملل والتوتر والقلق والضيق والغمّ… للخروج من الأوضاع المُحزنة، تحتاج هذه النفسُ البشريةُ إلى الهدوء النفسي وإلى طمأنينة القلوب. وهو ما تشيرُ إليه الآيات الثلاثة المشار إليها أعلاه (الفتح، 4 والتوبة، 26 والإسراء، 82). وما هو مُثيرٌ للانتباه في هذه الآيات، هو أن السكينةَ والرحمةَ تنزلان على المؤمنين. وهو الشيءُ الذي يوحي بأن إنزالَ هاتين السكينة والرحمة مقترنٌ بالإيمان. بمعنى أن نزولَ الخير ببُعده المعنوي والمُطمئن للنفوس مقترنٌ بالخضوعَ لله وتوحيده والسير في الطريق المستقيم الذي رسمه لعباده. وهذا دليلٌ قاطع على أن اللهَ سبحانه وتعالى يريد الخيرَ لعباده شريطةَ أن يتَّبعوا أوامرَه ويؤمنوا بقدرتِه الخارقة على خَلقِ الأشياء وتنزيلها على عباده لينعموا بها ماديا لبناء المجتمعات ونفسيا لتغذية الروح وتهدئة القلوب والنفوس. فإذا قالَ سبحانه وتعالى : "وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ…"، فالأمرُ لا يتعلَّق بالخزائن المتعارف عليها بشريا. بل الأمرُ يتعلَّق بقدرته على خلق الأشياء متى يريد و أينما يريد وكيفما يريد.
أما حينما يقول سبحانه وتعالى : "وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ"، فالأمرُ يتعلَّق بضمان توازُنٍ بين ما أنزله وما وفَّره اللهُ من خيراتٍ. توازنٌ يضمن بذوره بقاءَ واستمرارَ الحياة على وجه الأرض. ولقد سبق أن تطرَّقتُ لموضوع التوازن، بتفصيل، في مقالة سابقة منشورة على صفحتي تحت عنوان : "والسماءِ رفعها و وضع الميزان".