عبدالحميد العدّاسي: جوهرة

عبدالحميد العدّاسي: جوهرة عبدالحميد العدّاسي
حضر الشّيخ إبراهيم اليوم، مزوّدا بقصّة أخرى لصيّاد آخر. فقد توكّل الصيّاد على الله مسترزقا، ورمى شبكته متوكّلا، ودون تأخير سحبها فوجد بها سمكة صرفه جمالُها عن الاسترسال... قفل إلى بيته مستعجلا، فطلب من زوجته قليَها، فإذا هي تبادره بجوهرة فريدة استخرجتها من بطن السّمكة عند تنظيفها وتهيئتها. سُرّ الرّجل وزوجتُه أيّما سرور وانطلق بتوجيهها إلى جواهريّ المدينة، يريد بيعَها واشتراءَ ما يُدخل به السّرور على العائلة المعوزة فيغيّر حالها ويحسّن ظرفها. اعتذر الجواهريّ الأوّل عن الشّراء؛ إذ الجوهرة غاليةُ القيمة قد ترجح دكّانه بكلّ ما فيه، ونصحه بالتّوجّه إلى العاصمة حيث إمكانيّات الشّراء متوفّرة أكثر. أعلم زوجته بذلك، ودون تأخير سافر، ثمّ ظلّ هناك متنقّلا من جواهريّ إلى آخر، كلّ واحد يعبّر له عن عدم قدرته على الشّراء، فقيمة جوهرته تفوق قِيَم ما لديه من الجواهر، حتّى إذا بلغ صاحب عِلمٍ ودراية نصحه بالتّوجّه إلى قصر الملك؛ إذ لا أحد غيرُه يملك قيمة ما لديه... تردّد الصّيّاد ثمّ ما لبث أن طرد عن نفسه خوفَها ورهبتَها من الملك وتوجّه إلى القصر معْلِما الحرس والعسس والحُجّاب أنّ لديه حاجةَ الملك... كان اللقاء بين الفقير والملك طبيعيّا يسّره إعجابُ الملك بتلك الجوهرة. كانت مفاجأة الصّيّاد كبيرة عندما سمع الملكَ نفسَه يعبّر عن عدم قدرته على تقييم الجوهرة وضبط ثمنها.
كان الملك مقسطا يحذر ظلم النّاس والاعتداء على حقوقهم، فاقترح على الصّيّاد أمرًا أرضاه. قال له: لديك ثلاثُ ساعــات كاملة تسيح أثناءها في القصر دون منع أو تضييق، 
تنتقي كلّ ما يعجبك من كنوزه.
ابتدأ الصيّاد الفقير جولته مشدوها، فجرّته الرّوائح الطّيّبة الزّكيّة إلى مطبخ القصر وأوقفته على مآكل الملوك ممّا لم تر عينُه ولا خطر على باله. أرسل شهوته راتعة تقتني من مغريات البطون ما لا تحيط الألفاظ بوصفه، فأكل أَكْلةَ محرومٍ كادت تُفقده القدرةَ على التّنفّس. شبع شبعة لم يتخيّلها أمثالُه حتّى في الأحلام التي كثيرا ما تتربّص بالمحرومين وتثيرهم. خرج من المطبخ يتقوّى على السّير، فإذا أمامه غرفةُ نومِ الملك. لم يتأخّر في دخولها؛ إذ كان إعجابه بها وبما فيها من أسرّة وبُسط وفُرش كبيرا قد يفوق إعجابه بما أكل. ارتمى على سرير لم يطأه قبله إلّا الملكُ، فما لبث أن استغرق في نوم عميق تمنّى فيه خاتمته، لم يقطعه إلّا وخز الحرس المنضبطون للتّعليمات الملكيّة يعلمونه بانقضاء السّاعات الثّلاث... انتبه المسكين وقد فرّط في جوهرتة الثّمينة بشبعة أثقلته ونومة أفقدته فقه استغلال الوقت وكيفيّة الاستفادة منه. استصعب الرّجوع إلى بيتٍ رابط فيه جميعُ أفرادِ أسرته ينتظرون عودته. ندب حظّه، كيف تذهب الجوهرة دون أن يوفّر منها لزوجته وأولاده ونفسه ما يسدّ الرّمق ويمنع الحاجة ويُذهب الضّيق ويُنزل الرّاحة...
كنّا في رمضان وكان الشّيخ بقصصه تلك يستنهض العقول ويدعو إلى التّفكّر. فلمّا سأل عن عقدة القصّة ومغزاها،تكلّم شابّ لبيبٌ مبيّنا أنّ الدّنيا خضِرة، كما قال رسول الله ﷺ: [الدّنيا خضِرةٌ حُلوةٌ، فمن أخذها بحقّها بورك له فيها، ورُبَّ متخوّض (متوغّل) فيما شاءت نفسُه في مال الله ومال رسوله ﷺ له النّار يوم القيامة][1]. أمّن الشّيخ على ذلك دون أن ينقطع عن تحريض الحاضرين والاستزادة من اجتهاداتهم، ثمّ بيّن في النّهاية أنّ الثّلاثَ ساعاتٍ ما كانت إلّا هذه الأيّام الثّلاثين التي أكرمنا الله تعالى بها. فرمضان ثلاثُ باقات كلّ باقة فيها من عشر، هي كتلك السّاعات الثّلاث التي قضّاها الصّيّاد في قصر الملك، وعلينا جميعا أن نجتهد فيها في الطّاعات، حتّى لا ينقضي رمضانُ إلّا وقد باتت حال كلّ واحد منّا أحسنَ ممّا كانت عليه قبل رمضان... فقد جاء في الصّحيحين عن عروة بن الزّبير رضي الله عنه، أنّ عائشة زوج النّبيّ ﷺ أخبرته أنّ رسول الله ﷺ كان يرغّب النّاس في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة أمر فيه، فيقول: [من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه][2]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ ﷺ صعد المنبر فقال: [آمين، آمين، آمين]، قيل: يا رسول الله إنّك حين صعدتَ المنبر قلت: آمين آمين آمين، قال: [إنّ جبريل أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان ولم يُغفر له فدخل النّار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدَهما فلم يبرّهما فمات فدخل النّار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك فمات فدخل النّار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين]. حسّنه الألباني رحمه الله وصحّحه.[3]
 

[1] محمد بن حبّان: صحيح ابن حبان - حديث رقم4512 - تح. شعيب الأرنؤوط -  مؤسّسة الرّسالة – بيروت - ط2 - 1414 – 1993 - ج10 - ص 370.
[2] ابن ماجة: سنن ابن ماجه - حديث رقم 1326 - تح. محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربيّة - فيصل عيسى البابي الحلبي - ج1 - ص 420.
[3] أبو القاسم الطّبراني: المعجم الكبير - حديث رقم 2022 - تح. حمدي بن عبد المجيد السّلفي - مكتبة ابن تيمية – القاهرة - ط2 - ج 2 - ص 243.