يثبت قرار "الإدانة" الذي اتخذه البرلمان الأوروبي ضد المغرب، أن هناك امتدادا كبيرا لتيار فكري سياسي ذي نزعة عنصرية داخل هذه المؤسسة الأوروبية التي تسيطر عليها كتلة «حزب الشعب الأوروبي» «الديمقراطيون المسيحيون» بـ 182 عضوا، وكتلة «التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين» (153 عضوا»، و«كتلة تجديد أوروبا (108 أعضاء»، وكتلة «الخضر» التحالف الأوروبي الحر» (74 عضوا» وكتلة «الهوية والديمقراطية» (73 عضوا»، و«الكتلة الكنفدرالية ليسار الأوروبي المتحد/ اليسار الأخضر الشمالي" (41 عضوا)، ثم أخيرا غير المتكتلين من "التحالف من أجل السلام والحرية" و«مبادرة الأحزاب الشيوعية والعمالية" (54 عضوا).
فمن المؤكد أن المستشار السابق المقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ستيفان سيجورني، هو الذي تكفل بإقناع عدد من البرلمانيين الأوروبيين من كتل مختلفة بالتصويت لفائدة قرار يدين الشريك الاقتصادي لأوروبا، خاصة أن فرنسا تعتبره قرارا استراتيجيا يرتبط بموقعها داخل إفريقيا. كما تعتبره «إجراء تأديبيا» في حق المغرب الذي وضعها أمام «اختبار» صعب في علاقتها بمناطق نفوذها التقليدية. إذ غطى وجوده الاقتصادي والمالي على وجودها، مما فتح الباب أمام فاعلين آخرين مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فضلا عن الصين، لقضم مزيد من المساحات التي كانت تحت سيطرة باريس لعقود طويلة. وهو ما يؤكده الحضور الروسي بمالي، وحاليا ببوريكينافاصو.
إن فرنسا، ومعها دول الاتحاد الأوروبي، تحاول بمختلف الطرق، محاصرة «موسكو» في دول غرب إفريقيا، بما يحافظ لها على حضورها التقليدي بدول غرب إفريقيا، مما جعلها تضحي بالمغرب المتحالف مع واشنطن، لصالح الجزائر التي تجمعها علاقات تاريخية وطيدة بروسيا، وذلك لخلط الأوراق، والاستمرار في شد الحبل بين الدولتين المغاربيتين عبر الإمساك بورقة الجزائر في مواجهة موسكو، وأيضا في مواجهة المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن إسبانيا.
إن فرنسا، التي تهز ذيلها أمام الغاز الجزائري، تعمل كل ما بوسعها للحفاظ على جذوة الخلاف الجزائري الروسي، أولا لأنها تعتبر الخلاف بين الحليفين التقليدين هو المدخل المركزي للبقاء على قيد الوجود، وثانيا لأنها تعتبر أن الجزائر «منصة عسكرية» فعلية للاستمرار في مراقبة الوضع في كل من مالي وبوركينافاصو والغابون وغيرها؛ وثالثا، لإن إرخاء الحبل يعني في نهاية المطاف الفشل الشامل في الحفاظ على مواقعها، لصالح القوى الوافدة.
إن العمل بالمناولة التي تريد فرنسا تطبيقه في إفريقيا، وأقنعت أوروبا بضرورة تفعليه، دليل آخر على نظرة قصر الإليزيه الجديدة إلى إفريقيا، إذ بدأ «الاستعمار الجديد» يتفكك مع وصول النخب الإفريقية إلى مستوى عال من النضج السياسي، ومع ظهور فاعلين دوليين آخرين بنوايا استثمارية لا تقوم على التبعية والاستغلال، بل على التعاقد والاستثمار. وهو ما دفع ماكرون إلى محاولة تركيب قطع البوزل على مقاس «الحق في المستعمرات القديمة»، وليس على مقاس «الحق في تقرير المصير الثقافي والإداري والاقتصادي». فماكرون يراهن، في قلب العاصفة، على الدعم الأوروبي للجزائر من أجل إخراجها من حلقة النفوذ التقليدي لروسيا، وأيضا من أجل تحويل «كابرانات الجزائر» الفائزين بعائدات الغاز إلى كابحين لموسكو على مستوى التغلغل في غرب إفريقيا، وإلى قنابل موقوتة في وجه المغرب الذي يمضي قدما في قراراته السيادية، على المستوى الاقتصادي والاستثماري، دون الرجوع إلى باريس، أو الجلوس معها على طاولة المفاوضات.
لقد اعتبرت باريس أن المغرب أدار لها الظهر في محاولات بحثها عن موطء قدم في مناطق نفوذها السابقة، إلى درجة أنها حاولت أن تقنع أوروبا، ومعها العالم، بأن المغرب منشغل فقط بالتجسس على القادة والرؤساء والوزراء، وبأنه بلد «بوليسي» و«استخباراتي» و«قامع للحريات». بل إنها حولت أن «تغيظه» بالتحالف مع قصر المرادية وتبادل الزيارات، آخرها الزيارة التي قام بها الجنرال سعيد شنقريحة، فضلا عن الزيارة المرتقبة للرئيس تبون إلى باريس. وتبعا لذلك، يمكن القول إن فرنسا الماكرونية نست أن مياها كثيرة مرت تحت الجسر، وأن المغرب دولة مستقلة وليست دولة «مناولة» أو دولة تابعة للتاج الماكروني، وأن سياسة «فرّق تسد» وإنتاج كمّ هائل من التوترات في المنطقة ليست هي البوابة لاستمالة المغرب أو الحفاظ على روابط قوية معه.
لقد قال أحد المحللين: «ما يميّز علاقات فرنسا مع كلٍّ من المغرب والجزائر أنها تتأثر بالأهواء والأمزجة بقدر تأثرها بالمصالح الاستراتيجية والقرارات المصيرية. إنها علاقات انفعالية حساسة وسهلة التقلب»، والحال أن الانقلاب الفرنسي الحالي هو أقرب إلى القرار الاستراتيجي منه إلى الانفعال أو الغضب أو «شد الأذن»، وهو ما يتعامل معه المغرب بمنطق القافلة تسير و«الكابرانات» ينبحون في الجزائر وباريس والبرلمان الأوروبي..
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"