عمر الإبوركي : القبائل المغربية من المجال الصحراوي إلى التاريخ الوطني (1/2)

عمر الإبوركي : القبائل المغربية من المجال الصحراوي إلى التاريخ الوطني (1/2) عمر الإبوركي

إن كتابة التاريخ عمل يشير إلى وعي الإنسان بالزمن، وتجاوز للنظرة التي تعتبر الزمن مجرد لحظات متراكمة، إلى نظرة ترى فيه لحظات فاعلة، ينعكس السابق منها على اللاحق. لقد أصبح الإنسان يعي عبر الكتابة التاريخية، أن حاضره يكتسب معناه من السيرورة التي تندرج ضمنها فعاليته الفردية والجماعية. وإذا كان المجتمع المغربي تاريخي فلا يمكن فهم أو عزل حاضره عن سيرورة الزمن، لذلك فالتاريخ ينفذ إلى كل معرفة للمجتمع كمنهج لفهم هذه السيرورة. وحينما نريد تتبع المقاومة القبلية للغزو الأجنبي، فإن الخيط الرابط بين فعالية المجتمع اليوم هي عملية متواترة عبر الزمان والمجال ضمن حس وطني مشترك تتوارثه الأجيال رغم تحولات شروطها الثقافية ودرجة وعيها بهذا التاريخ.

 

الهجرة في سبيل العلم والجهاد:

 

كانت الهجرة هي الديناميكية الإجتماعية التي تبلورت من خلالها جل القبائل المغربية في علاقتها بالمجال الجغرافي والثقافي. ومن هنا أبرزت الدراسات الأنثربولوجية الجذور الصحراوية لقبائل المغرب عامة، وقبائل الرحامنة خاصة، وكيف تفاعلت هذه القبائل مع المجال الممتد من الصحراء إلى سوس والحوز قبل الاستقرار النهائي.

 

لقد تشكلت قبيلة الرحامنة بعد تمازج عناصر مختلفة، تلاقحت بفعل نزوحها من الجنوب المغربي نحو الشمال قبل أن تستقر شمال مدينة مراكش داخل مجال محدد بين نهري أم الربيع شمالا و تانسيفت جنوبا.

 

فالقبيلة ليست واقعا جغرافيا، بل اجتماعيا تشكل عبر سيرورة طويلة يمكن فهم تنظيمها الداخلي من خلال تطورها في الزمان. وتكوينها لم يخرج عن التاريخ العام للمجتمع المغربي الذي عرف تنقل وحركة المجموعات القبلية عبر مجالات ترابية مترامية، وخلال قرون من الزمن.

 

بين التاريخ والمجال تشكل النسيج الرحماني الذي أعطى تنوعا فسيفسائيا من القيم واللهجات، والتقاليد، وانتشار المدارس القرآنية، وهو ما يبرز بشكل جلي أن الرحامنة مجال اجتماعي وثقافي تشكل عبر سيرورة من التحولات الاجتماعية والتاريخية تداخلت فيها مجموعة من العوامل التي أكدت على الآصرة القرابية والتاريخية، وعلى الروابط الدينية والروحية بين الرحامنة وقبائل الصحراء، والتي ما زالت قبيلة الرحامنة تحمل قيمها إلى اليوم. هذا الارتباط الروحي الذي جمع القبائل بالسلاطين المغاربة لعب فيه الصلحاء والزوايا والمدارس القرآنية دورا بارزا عضدت تلك اللحمة الوثقى التي ساهمت بشكل بارز في الدفاع عن التراب الوطني، ونسج وحدته المتناغمة عبر التاريخ.

 

قد لا يسعنا المجال لتفصيل عدد الزوايا المنتشرة في مجال الحوز والرحامنة، والتي ساهمت في صلاح الأحوال، والحفاظ على لحمة المقاومة القبلية للغزو الأجنبي، ونذكر هنا بعض الزوايا للشرفاء السباعيين:

ـ ضريح سيدي البهليل السباعي: ويوجد بين ابن كرير والصخور ببلاد قبيلة الرحامنة.

 

الجهاد ومعركة وادي المخازن

 

عمل التدخل البرتغالي على وضع حد للنشاط الاقتصادي بعد احتكاره لكل نشاط تجاري تبادلي مع المدن الساحلية، و قطع تلك العلاقة الوسيطة التي كانت تمارسها القبائل ـ ضمنها الرحامنة - بين المناطق الجنوبية و المرافئ الشمالية. في هذه الفترة أي بداية القرن السادس عشر الميلادي كان الرحامنة بمنطقة "مَاسَّةْ" جنوب مدينة أكادير، وعندما جاء رد فعل السعديين ضد الغزو المسيحي الأوربي كانت القبيلة من المساهمين في حركة الجهاد ضمن "جَيْشْ أَهْلْ سُوسْ" إلى جانب قبائل: "الشْبَانَاتْ" و "الاوْدَايَةْ" و"احْمَرْ".

في المجتمع المغربي كان الجهاد ملازما للصلاح عند القبائل المغربية، وقد ظهر ذلك جليا في الدور الذي لعبته الزوايا في توحيد القبائل أثناء استعداد السعديين لمواجهة الجيش البرتغالي. لقد تأسس جيش أهل سوس من تكتل قبلي من الصحراء إلى سوس، إلى الحوز ليدعم بقبائل "الَهْبَطْ" و "غْمَارَةْ" والساحل الغربي التي واجهت الغزو الإيبيري في معركة وادي المخازن الحاسمة يوم 4 غشت 1578م تحت إمرة السلطان عبد المالك السعدي.

 

إلا أن هذا الانضمام لم يكن تنظيميا يجعل منها قبيلة - جيش، بل جاء لتحرير الثغور المغربية، وصدّا للغزو الأجنبي، ورد فعل ضد تكسير الوساطة التجارية التي كانت تمارسها هذه القبائل بين الموانئ الساحلية المغربية وجنوب الصحراء. وهذا يبرر أن القبائل المغربية من الصحراء إلى الشمال كانت تنخرط في مواجهة كل غزو خارجي، وفي كل حركة جهادية يدعو إليها السلطان، رغم أنها ليست قبائل منتظمة داخل الجيش السعدي.

 

التدخل الفرنسي وحركة المقاومة بالمجال الرحماني:

 

لقد لعب الشيخ ماء العينين دورا بارزا منذ نهاية القرن التاسع عشر في نشر الصلاح الصوفي عبر مناطق كثيرة، وجمع وتوحيد كلمة القبائل من الجنوب المغربي بأمر من السلطانين مولاي الحسن الأول، ومولاي عبد العزيز. وكانت مدينة السمارة هي القاعدة التي انطلق منها نحو مدينة تزنيت التي توفي بها سنة 1910 م، وجاءت حركة ابنه الشيخ أحمد الهيبة التي واجهت التدخل الفرنسي لمدينة مراكش بمنطقة الرحامنة، بمساهمة القبائل المغربية من الساقية الحمراء، وواد نون، وحاحة، والشياضمة، وسوس، والحوز، والرحامنة.

 

كانت العقبة التي واجهت "لْيُوطِي" في منطقة الحوز هي حركة المقاومة هاته التي قادها الهيبة وأخوه مُرَبِّيهْ رَبُهْ بنشر فكرة الجهاد ضد "النصارى"، فألهب حماس القبائل، وزعزع مواقف القواد وسلطتهم، فانتشر صداها ليعم كل قبائل سوس وحاحة والشياضمة وقبائل الحوز. ولمواجهة حركة المقاومة هاته قرر الفرنسيون الاعتماد على بعض قواد الحوز الكبار لمواجهة الهيبة، والدخول إلى عاصمة الجنوب.

 

انقسم القواد وترددوا، فمنهم من انضم إلى جانب الْهِيبَةْ، ودعمه بالرجال والسلاح كـ "الْحَاجِّي" قائد الشياضمة، و "حَيْدَةْ أمِيسْ الَمْنَابْهِي"، و "عَبْدْ السَّلَامْ الْبَرْبُوشِي الرَّحْمَانِي". وعند دنو الْهِيبَةْ من مراكش خرج قواد الحوز الكبار؛ المدني الَـﯕْلَاوِي والَمْتُّوﯕِي والْعِيَّادِي لاعتراض طريقه ومجابهته، لكنهم عدلوا عن مواجهته، واستقبلوه، بينما بقي القائد الْكَنْدَافِي يراقب تطور الأحداث، ويصف لنا صاحب المعسول هذا الاستقبال:

« خرج الفقيه السيد المدني الـﯕلاوي وأخوه القائد التهامي، والقائد العيادي الرحماني لمدافعته (يعني الهيبة)، فلما تراءى الجمعان فشلت عساكرهم شأن غيرهم من غير طعن ولا ضرب، وانقلبوا من المدافعة إلى المداهنة والمهاداة، فتلقوه بالهدايا بنحو عشر كيلومترات من مراكش وقيل أن الـﯕلاوي أهدى إليه خمسين عبدا كل عبد بفرس، وعلى رأس الجميع مائدة مملوءة بالنقود الذهبية والفضية، وأن القائدين المتوﯕي والرحماني فعلا مثل ذلك».

 

                                                       ـ الأستاذ عمر الإبوركي، باحث في علم الإجتماع

 

يتبع