رضا الفلاح: ورقة "بيغاسوس" كشفت الأزمة الأخلاقية التي تتخبط فيها أوروبا.. وخاصة فرنسا

رضا الفلاح: ورقة "بيغاسوس" كشفت الأزمة الأخلاقية التي تتخبط فيها أوروبا.. وخاصة فرنسا رضا الفلاح، أستاذ القانون الدولي بجامعة ابن زهر بأكادير
لا‭ ‬يمكننا‭ ‬فهم‭ ‬أزمة‭ ‬العلاقات‭ ‬المغربية‭ ‬الأوروبية‭ ‬اليوم‭ ‬دون‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬الواسع‭ ‬والشامل‭ ‬لأزمة‭ ‬النموذج‭ ‬الحضاري‭ ‬الأوروبي،‭ ‬وما‭ ‬يتمخض‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الأوروبية‭ ‬مع‭ ‬باقي‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬خارج‭ ‬القارة‭ ‬العجوز‭.
 
‬تعرف‭ ‬أوروبا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الداخلي‭ ‬لدولها‭ ‬الأعضاء‭ ‬تزايدا‭ ‬في‭ ‬حدة‭ ‬الاستقطابات‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تهيكلها‭ ‬وتتحكم‭ ‬فيها‭ ‬تيارات‭ ‬راديكالية‭ ‬مختلفة‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭  ‬أو‭ ‬من‭ ‬السيار‭ ‬الراديكالي‭. ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية،‭ ‬اتضح‭ ‬فشل‭ ‬أوروبا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والطاقية‭ ‬الخانقة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬الأوكرانية‭ ‬وتراجع‭ ‬سعر‭ ‬صرف‭ ‬الأورو،‭ ‬مقابل‭ ‬الدولار،‭ ‬والنتيجة‭ ‬العكسية‭ ‬للعقوبات‭ ‬على‭ ‬روسيا،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬أكبر‭ ‬المتضررين‭ ‬منها‭.‬

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬أوروبا‭ ‬لم‭ ‬تستوعب‭ ‬بعد‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬الطارئة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وقد‭ ‬تضاءل‭ ‬حجمها‭ ‬الاقتصادي‭ ‬مقارنة‭ ‬بقوى‭ ‬كبرى‭ ‬صاعدة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬ترسخت‭ ‬تبعيتها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭.‬

كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية‭ ‬تفسر‭ ‬تشظي‭ ‬السياسة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وتراجع‭ ‬مصداقيتها‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬بعض‭ ‬التيارات‭ ‬والأجندات‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬بعض‭ ‬الأوراق‭ ‬المكشوفة‭ ‬ضد‭ ‬المغرب‭ ‬باعتباره‭ ‬بلدا‭ ‬أصبح‭ ‬يمتلك‭ ‬عقيدة‭ ‬دبلوماسية‭ ‬واضحة،‭ ‬ولديه‭ ‬سياسة‭ ‬إقليمية‭ ‬براغماتية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تشبثه‭ ‬بسيادته،‭ ‬وبنمط‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬توسيع‭ ‬دائرة‭ ‬الشركاء،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬مربعات‭ ‬النفوذ‭ ‬الموروث‭ ‬عن‭ ‬الحقبة‭ ‬الاستعمارية‭.‬

إصرار‭ ‬هذه‭ ‬الأطراف‭ ‬خاصة‭ ‬داخل‭ ‬فرنسا‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬ورقة‭ ‬بيغاسوس‭ ‬يشكل‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬حجة‭ ‬تدينهم،‭ ‬وتؤشر‭ ‬على‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬يتخبطون‭ ‬فيها‭. ‬إن‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬عبر‭ ‬تلفيق‭ ‬الاتهامات‭ ‬الباطلة‭ ‬والافتراءات‭ ‬دون‭ ‬تقديم‭ ‬أدنى‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬المغرب‭ ‬لهذا‭ ‬البرنامج،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬صدور‭ ‬دراسات‭ ‬وتحقيقات‭ ‬تقنية‭ ‬يؤكد‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بطلانَ‭ ‬الادعاءات،‭ ‬ولكن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬سوء‭ ‬نوايا‭ ‬هذه‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬السياق‭ ‬عن‭ ‬انحيازها‭ ‬للمعادين‭ ‬للوحدة‭ ‬الترابية‭ ‬المغربية‭. ‬وبذلك‭ ‬تتضح‭ ‬درجة‭ ‬التشنج‭ ‬لدى‭ ‬هذه‭ ‬الأطراف‭ ‬برميها‭ ‬كل‭ ‬الأوراق‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬غير‭ ‬المكشوفة!.
‭ ‬
يندرج‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬المكشوفة‭ ‬توظيف‭ ‬البرلمان‭ ‬الأوروبي‭ ‬لورقة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬كورقة‭ ‬مُسيّسة‭ ‬تحاول‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أوروبا‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬المغرب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تفطَّن‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬قناع‭ ‬المثل‭ ‬النبيلة‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬سخرته‭ ‬أوروبا‭ ‬لتحقيق‭ ‬غايات‭ ‬غير‭ ‬نبيلة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المحطات‭ ‬التاريخية‭. ‬

وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬كون‭ ‬القضية‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬تشكل‭ ‬تدخلا‭ ‬أوروبيا‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬للمغرب،‭ ‬فإنها‭ ‬تذكرنا‭ ‬بأن‭ ‬أوروبا‭ ‬اليوم‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬استمرارية‭ ‬لأوروبا‭ ‬الكولونيالية‭ ‬بأساليب‭ ‬وأدوات‭ ‬جديدة‭. ‬أوروبا‭ ‬تستخدم‭ ‬استراتيجية‭ ‬الفضيلة‭ ‬وتُسيس‭ ‬ورقة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬كما‭ ‬استخدمت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬أسطورة‭ ‬تمدين‭ ‬ونشر‭ ‬الحضارة‭  ‬لدى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تسميه‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬إيديوبوجية‭ ‬عنصرية‭ ‬بالشعوب‭ ‬“غير‭ ‬المتحضرة”‭.‬

إن‭ ‬حنين‭ ‬أوروبا‭ ‬إلى‭ ‬ماض‭ ‬الوصاية‭ ‬والاستعلاء‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬غير‭ ‬الأوروبية‭ ‬لا‭ ‬يوازيه‭ ‬إلا‭ ‬براعتها‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬أوراقها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬المفارقة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬رائحة‭ ‬الغاز‭ ‬الجزائري‭ ‬تسد‭ ‬أعين‭ ‬هذه‭ ‬الأطراف‭ ‬الأوروبية‭ ‬عن‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الواسعة‭ ‬النطاق‭ ‬للحريات‭ ‬السياسية‭ ‬والمدنية‭ ‬بالجارة‭ ‬الشرقية‭ ‬للمغرب،‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬الزج‭ ‬بالمعارضين‭ ‬في‭ ‬السجون‭ ‬وانتهاك‭ ‬مُمنهج‭ ‬لحرية‭ ‬الصحافة‭. ‬

فإذا‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬سياسة‭ ‬الكيل‭ ‬بمكيالين‭  ‬من‭ ‬ثوابت‭ ‬البرلمان‭ ‬الأوروبي،‭ ‬فعلى‭ ‬الأقل‭ ‬يجب‭ ‬التنبيه‭ ‬إلى‭ ‬القاعدة‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬تحث‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكنس‭ ‬باب‭ ‬منزلها‭ ‬أولا،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تراجع‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬وتنامي‭ ‬العنصرية‭ ‬وكراهية‭ ‬الأجانب‭ ‬داخل‭ ‬أوروبا‭ ‬نفسها‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬المغرب‭ ‬يمتلك‭ ‬مؤسساته‭ ‬الدستورية‭ ‬ومنظمات‭ ‬مجتمعه‭ ‬المدني‭ ‬التي‭ ‬تختص‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭  ‬مصادقته‭ ‬على‭ ‬30‭ ‬اتفاقية‭ ‬وبروتوكول‭ ‬تتعلق‭ ‬بحماية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬ويعد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬المنفتحة‭ ‬على‭ ‬المساطر‭ ‬الخاصة‭ ‬وزيارات‭ ‬المقررين‭ ‬الأمميين‭ ‬ويتفاعل‭ ‬بانتظام‭ ‬مع‭ ‬مواعيد‭ ‬الاستعراض‭ ‬الدوري‭ ‬الشامل‭.‬

إن‭ ‬استهداف‭ ‬المغرب‭ ‬وبهذه‭ ‬الأدوات‭ ‬المغرضة‭ ‬يؤشر‭ ‬على‭ ‬مأزقين‭ ‬أوروبيين‭ ‬يغذيان‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬يتمثل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬بعض‭ ‬الأجندات‭ ‬داخل‭ ‬أوروبا،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬طموح‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬استقلاليته‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬وحريته‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬الاصطفاف‭ ‬في‭ ‬معارك‭ ‬لا‭ ‬تعنيه،‭ ‬والتوظيف‭ ‬الأمثل‭ ‬لعناصر‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬يمتلكها‭ ‬ضمن‭ ‬تصور‭ ‬جديد‭ ‬للشراكة‭ ‬والتعاون‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬المنفعة‭ ‬المتبادلة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية‭. ‬والمأزق‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬حضاري‭ ‬باعتبار‭ ‬ما‭ ‬تعيشه‭ ‬أوروبا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬انحطاط‭ ‬في‭ ‬نموذجها‭ ‬الحضاري،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفكك‭ ‬البنى‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وتغول‭ ‬الفردانية‭ ‬المطلقة‭ ‬المُنفلتة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تأسست‭ ‬عليها‭ ‬الحداثة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يندرج‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬زيغمونت‭ ‬باومان‭ ‬بـ‭ ‬“الحداثة‭ ‬السائلة”‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬الجانب‭ ‬الأوروبي‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرارات‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬إلحاق‭ ‬الضرر‭ ‬بالشراكة‭ ‬المغربية‭ ‬الأوروبية‭. ‬فهل‭ ‬ستكون‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬قد‭ ‬تفرز‭ ‬فرصة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬تقييم‭ ‬هذه‭ ‬الشراكة‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬وسائلها‭ ‬وأهدافها؟‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬ستجيبنا‭ ‬عنه‭ ‬الشهور‭ ‬والسنوات‭ ‬المقبلة‭.‬