نوستالجيا زمن طفولة الفنان الشيخ حجيب بمجال منطقة الرحامنة (2)

نوستالجيا زمن طفولة الفنان الشيخ حجيب بمجال منطقة الرحامنة (2) الزميل أحمد فردوس والفنان حجيب

النبش في طفولة الفنان الشِّيخ حجيب فرحان في علاقة بارتباطه مع منطقة الحوز عامة والرحامنة خاصة يمنح جليسه الشيء الكثير للحديث عن مساره الإبداعي كنجم متألق حفر اسمه بالكدِّ والاجتهاد، رغم الإكراهات والتحديات. على اعتبار أنه اليوم يعتبر واحدا من ألمع سفراء شيوخ فن العيطة والغناء والثقافة الشعبية (الغناء وفن القول والحكي والنكتة...)، بعد أن اكتسب بفضل خبرته وتدرجه الميداني على سلم أسرار "مَشْيَخَةْ الرْمَا"، حيث استطاع أن يفرض نفسه في الساحة الفنية المغربية وخارج الوطن بدون منازع.

في الحلقة الثانية من سلسلة هذه الحلقات تقدم جريدة "أنفاس بريس" للقراء وعشاق النجم الشيخ حجيب فسحة من نوستالجيا طفولته، وكيف تشكلت لديه تلك الروابط المتينة مع منطقة الرحامنة بفصل عائلته ذات الأصول الصحراوية، وبناء جسر العبور نحو مختبر مجالها الجغرافي والإغتراف من ينبوعها التراثي؟.

 

تنحدر أصول عائلة حجيب فرحان سليلة شجرة الإنتماء لقبائل الصحراء المغربية من منطقة الرحامنة الشاسعة الأطراف بجهة مراكش أسفي، لكن مسقط رأس الطفل حجيب كان بالعاصمة الإدارية مدينة الرباط، حيث نمى وترعرع واشتد عوده بين دروبها وأزقتها وتتلمذ بمؤسساتها التعليمية مع أقرانه.

بألق تحدث الشيخ حجيب عن نوستالجيا زمن طفولته التي صقلها سفره الموسمي خلال العطل المدرسية رفقة الأسرة بشكل دائم من الرباط نحو بادية الرحامنة، حيث تشبع ذهنه الصافي منذ نعومة أظافره، بتراث وطقوس وعادات وتقاليد أهل الرحامنة، وهناك بين السهول والتلال وفي المراعي تفجرت مواهبه ومعارفه واكتشافاته بالوسط القري الذي ركض فيه بين حقول ومروج زراعتها وأغراسها، باحثا عن أجوبة لأسئلة ذات معنى بأرض أنجبت النساء والرجال من طينة الشجعان، وبصمت بتاريخها أروع ملاحم الجهاد والتصدي للمغتصب والبحث عن الأمن والأمان والاستقرار.

في هذا السياق قال الشيخ حجيب ونحن نقف على جفاف المنطقة مع قلة التساقطات المطرية: "هذه الأرض الطيبة معطاء وسخية، ورحمها وَلَّاد، فحين تكون (الصَّبَا) والموسوم الفلاحي منتج ومزدهر، لن ترى إلا ما يفرح القلب ويبهج الفؤاد، حيث ترسم الحقول بأبهى وأجمل زرابي الأزهار والورود بمختلف أنواعها وأشكالها الطبيعية..".

هي نوستالجيا تحكي عن زمن التقطت فيه بانبهار وحب ذبذبات أذن الطفل حجيب أهازيج ومواويل ومرددات المنطقة وأغانيها الجميلة، سواء تلك التي كانت تصدح بها أصوات الرجال والنساء في الحقول أيام فصل الربيع، أو تلك الأصوات المبتهجة ذات الصلة بموسم الحصاد صيفا.

لقد عاش الطفل حجيب وقتئذ عن قرب تفاصيل مواسم الرحامنة التي كانت تعتبر محطة أساسية للعبور نحو السعادة والفرح وصناعة الفرجة، واللقاءات الحميمية بين الناس، وصلة الرحم وتقاسم كؤوس الشاي والمكسرات والطعام تحت خيم الفرسان بعد فرجة طقوس التبوريدة وسنابك الخيل. لذلك شكلت له كل هذه التفاصيل مدخلا لفهم معنى الراحة النفسية والإطمئنان والسكينة بأرض الرحامنة وتربتها الطيبة.

تتراقص وتتسابق صور الحكي التي خزّنها الشيخ حجيب في ذاكرته المتّقدة، وخصوصا تلك المشاهد الدالة على عشق المنطقة بساكنتها التي وصفها بالكرم والجود والسخاء، وتقاسم كل ما هو جميل بين الناس دون تصنع. في كل المناسبات العائلية والأعياد والمواسم، حيث رسمت في مخيلته سيناريو مكتوب بحبكة السرد لتفاصيل العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الجميع بطريقة تنبض بعشق الطبيعة وجمالها الأخاذ في حضرة نساء ورجال لبلاد.

فسحة مدرسة بادية الرحامنة منحت الشّيخ حجيب وهو طفل، دروسا رائعة في العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي التقطها بعينيه، حيث انبهر وهو القادم من الرباط، أواصر المحبة بين ساكنة الدوار وجيرانهم، وبين أفراد القبيلة لتمتد هذه الروابط إلى المجال الرحماني والحوزي والصحراوي بطقوسها وعاداتها وتقاليدها الضاربة بجدورها في عمق التربة المغربية وتتفاعل مع تراث الموروث الثقافي الشعبي المتعدد والمتنوع.

من المشاهد الاجتماعية والإنسانية التي أترث في سلوك حجيب وهو طفل يتردد على البادية يحكيها بقوله: "كان أهل بادية الرحامنة لا يترددون في مساعدة بعضهم البعض (التويزة) بتعاونهم وتضامنهم خلال كل المناسبات التي يستعدون لها أيام قبل لحظة الصفر. سواء خلال أعراس الزواج، والختان، والعقيقة، والمآثم، وأثناء موسم الحرث، والحصاد.."

ومازالت صور تلك العلاقات الإنسانية التي سجلتها ذاكرته حاضرة بقوة والتي ساهمت بشكل أو بآخر بتكوين شخصيته البدوية منها "تبادل الزيارات فيما بين الأهالي كلما تطلب الأمر ذلك خصوصا للتخفيف من ألم مريض أو تقديم الدعم جراء معاناة أحدهم مع شقاء الحياة الصعبة. أو تقديم العزاء في وفاة قريب وعزيز". لذلك يشدد الشيخ حجيب على أن كل هذه المشاهد والصور تركت في نفسه انطباعا خاصا على منطقة الرحامنة وأخذت حيزا كبير من قلبه المتيم بأرضها وناسها وعاداتهم وتقاليدهم الجميلة.

على مستوى الإرهاصات الأولى ذات الصلة بتراث الفنون الشعبية يحكي حجيب عن ليالي السمر التي تابعها بحب وحضر إليها باهتمام وبعشق طفولي رفقة أقرانه من بادية الرحامنة، حيث كان يلتئم فيها كل ساكنة الدّوار كبارا وصغارا، رجالا ونساء، تحت سقف خيمة "عْبِيدَاتْ الرْمَا"، للاستمتاع بما يقدمون من وصلات وفقرات التمثيل والحكي والرقص والغناء والموسيقى التقليدية حيث قال في هذا الصدد:

"كان أفراد مجموعات عْبِيدَاتْ الرْمَا ينصبون خيمتهم وسط الدوار كعلامة وإشارة في المكان والزمان، ويقومون بجولتهم الإشهارية بين أهل القبيلة وساكنة الدوار وجيرانهم لاستقطاب الجمهور وهم يعزفون على آلاتهم الموسيقية والإيقاعية البسيطة، وكانت تمر تلك الليالي في جو يطبعه الإحترام المتبادل، والكرم والسخاء الرحماني اتجاه شيوخ ومقدمين عْبِيدَاتْ الرْمَا، حيث تتقاطر وجبات الطعام وصواني الشاي على الخيمة كعربون ضيافة تليق بمقام الضيف ومن معه، وبعد ذلك ينتقل أفراد المجموعة إلى دوار آخر وهكذا دواليك إلى أن ينتهي الدور التنشيطي في مجموع دواوير الرحامنة وقبائلها".

هذه المشاهد التراثية بكل تفاصيلها زادت من عشق الطفل حجيب وتعلقه بمنطقة الرحامنة، حيث عاهد نفسه بأن يظل وفيا للزيارة ولقضاء العطل الموسمية هناك من أجل الإقتراب أكثر من ينبوع هذا الجمال الفياض على مستوى تراث الرحامنة الذي تفتقده المدينة بفعل معمارها الخانق ومشاكل الحياة وسط ضجيجها.

هكذا أصاب سهم "لَوْلَاعَةْ" قلب الطفل بعد توالي عمليات السفر من الرباط إلى الرحامنة، حيث تلقح الشيخ حجيب وسط مختبر تراث مجال الرحامنة، وأحب نداءات العيطة بتلك الأصوات الساحرة (الحوزي و حمادة...)، وأعجب بكل الأنماط الغنائية الشعبية التي كانت تمور بها المنطقة، بتنوع إيقاعاتها وميازينها المعقدة بأبسط الآلات ذات المنتوج الرعوي.

يتبع