لم تعد الأسرة المغربية في الأوساط الشعبية قادرة على تحمل نفقات غلاء الأسعار، وتوفير المواد الاستهلاكية الأساسية بكل أنواعها، بعدما جمدت سلاليم الزيادة في الأجور، وارتفع منسوب الهشاشة، وتسللت سلوكات الإنتهازية واقتناص الفرص بين تجار الأزمات دون رادع، في الوقت الذي تربى فيه أفراد المجتمع المغربي على قيم التضامن والإيثار، حيث كانت مؤسسة البقال وشخصية "مُولْ الْحَانُوتْ" تلعب دورا محوريا في المحافظة على التوازنات التجارية والمالية وسط الحي الشعبي...وكان البقال يسدي خدمات نبيلة دون تصنع ويغطي احتياجات الناس، ويسهر على تلبية أغراضهم إلى أن يحين وقت أداء ما بالدمة وفق التعاقدات الاجتماعية.
في هذه الورقة التي تقدمها جريدة "أنفاس بريس" نعيد رسم صورة تمثل المؤسسة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لـ "مُولْ الْحَانُوتْ" في الأحياء الشعبية، وكيف كان يدبر شأن الناس اليومي دون تمييز بين موظف وعامل وحرفي وعاطل...
باحترام وتقدير كبيرين كان الناس يتعاملون معهم، ويثقون فيما يستودعونهم من أمانة في إطار علاقة اجتماعية مبنية على تبادل المنافع دون طمع أو غدر. وكنا ونحن أطفال ننادي عليهم بأسمائهم التي تعكس حقيقة شخصياتهم في الحي (اسم على مسمى) بـ "سِّي مْبَارَكْ"، و "سِّي مَسْعُودْ"، و "سِّي الطَّاهَرْ"، و "سِّي قَدُّورْ"، و "سِّي الْمَعْطِي"...هي نماذج لأسماء كانت تمتهن البقالة بأزقة ودروب أحيائنا الشعبية، معروفة بسخائها وكرم عطائها.
ببساطة تواصل الأطفال، كنا نطلق على الواحد منهم "مُولْ الْحَانُوتْ"، على وزن إسم "مُولْ الْفَرَّانْ"، بحكم أن "الْبَقَّالْ" يعتبر دعامة مهمة لاقتصاد الأسرة المغربية المحدودة الدخل في الحي الشعبي. إلى درجة كانت شخصية "مُولْ الْحَانُوتْ" مصيرية ومؤثرة في قرارات الأسر على مستوى ملاحظاته حول سلوك الأبناء والبنات وتقديم معلومات ذات أهمية بالغة لربِّ الأسرة الذي يعول كثيرا على تقاريره الشفوية، كحارس وراعي لأطفال الحومة جميعهم دون تمييز.
إلى وقت قريب، كان "مُولْ الْحَانُوتْ" شريكا أساسيا في تدبير اقتصاد الأسرة المغربية، على اعتبار أنه يستثمر في تجارته من خلال "كَارْنِي لَكْرِيدِي" المخصص لتسجيل المواد الاستهلاكية في انتظار تسلم ربّ الأسرة مدخوله الشهري (الموظف والأجير) أو الأسبوعي (الْكَانْزَةْ) عمال المناجم، وحتى المدخول اليومي للصناع والحرفيين، ثم المدخول الموسمي لبعض الفئات الشعبية مثل شيخات وشيوخ العيطة والمجموعات الغنائية الشعبية.
من المؤكد أن بقال الحي "مُولْ الْحَانُوتِ" هو المؤسسة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي تعرف حقيقة مستوى عيش الأسر بالحي ومستوى إنفاقهم، لذلك لم يكن يتهاون في توفير ما يحتاجون من أساسيات بما فيها الاقتراض من صندوق توفيره دون فوائد في أيام الشدة والحاجة وخصوصا أيام المناسبات والأعياد.
بقال الحي "مُولْ الْحَانُوتْ" هو الذي كان يضبط ويوفر بسخاء كل أنواع الماركات المسجلة التي تستعملها هذه الأسرة وتلك، بل هو الوحيد الذي بُرْمِجَ ـ أكثر من حواسيب هذا الزمن ـ على ما تحتاجه الأسرة من مواد متنوعة وكمياتها الاستهلاكية حسب عدد أفرادها، بل أنه يضبط يومهم المخصص للاستحمام، ويوم السفر، ويوم الذهاب للأعراس والعزاء وعيادة المريض، على اعتبار أنه يعيش بينهم ويعرف عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم في الحي والدرب والزقاق، وحفظ عن ظهر قلب طباعهم وطبائعهم، وهو كاتم سر حكايات معاناتهم وبطولاتهم بين الجيران مع ضنك العيش ورغده في نفس الوقت.
على قاعدة المثل المغربي القائل: "يَا فَتَّاحْ يَا رَزَّاقْ" كان البقال في الحي الشعبي أول من يفتح أبواب "الْحَانُوتْ / دكّانه" في الحي، وآخر من يغلق الأبواب بعد يوم شاق مع طبيعة عمله الروتيني، وكأن قدره في هذه الحياة هو حرصه على إشباع البطون الجائعة، وتوفير المئونة والمواد الاستهلاكية لكل الأسر التي تتعامل معه وفق جدولة اقتصادية متفق عليها مسبقا بينه وبين المستفيدين من خدماته.
لم تتعثر مؤسسة "مُولْ الْحَانُوتْ" في أداء مهامها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، أمام ارتفاع منسوب طلبات الزبناء دون توقيع عقد مشترك يضبط الحقوق والواجبات، اللهم قيم "الْعُرْفْ" و "الْعَادَةْ" و "الثِّقَةْ"، مقابل "النِّيَّةْ" و "الْبَرَكَةْ" و "الأمانة". لذلك حافظت شخصية البقال على ربط جسور المعاملة التجارية في أوساط الأحياء الشعبية بيسر وسلاسة ودون إكراه بين مختلف الناس، لا فرق في ذلك بين موظف وعامل وحرفي ولا فرق حتى مع العاطل عن العمل في انتظار الفرج، دون التفريط في احتياجات الأرامل لسد الرمق.
لا يمكن لـ "مُولْ الْحَانُوتْ" كمؤسسة اجتماعية في زمن "النِّيَّةْ" و "الثِّقَةْ" و "الْبَرَكَةْ" بمفهومها العلمي والمنطقي، أن يتخلى عن دوره التمويني لساكنة الحي وأسره خلال المناسبات المفرحة والحزينة (أعراس وحفلات ومآثم..)، حيث تجده أول من يفاتح ربّ الأسرة في حاجيات المناسبة من مواد استهلاكية، وتقدير عدد الضيوف، ويتكلف بجلبها والحرص على توفيرها إلى حين سداد أثمنتها، لا يعرف التهاون في تقديم خدمته النبيلة دون ترشيح أو تصويت وحمل صفة مستشار جماعي ينوب عن الناس في الصراء والضراء بدون طمع اللهم صون حقه المشروع حين يأتي الفرج.
البقالة مهمة صعبة جدا، تحتاج للرجل النزيه والصالح، مثله مثل الفقيه "الطَّالَبْ" العفيف والشريف الذي يسهر على إدارة "الجَّامَعْ/ لَمْسِيَّدْ" وسط الحي الشعبي، حيث يصون حرمة المسجد، ويحافظ على غرس القيم الدينية في نفوس الأطفال، ويباشر أعمال النية المنوطة به من إعلان الفرح بازدياد مولود جديد بالحي للظفر بالعقيقة، إلى تقديم دروس الموعظة الحسنة، وزيارة المرضى، وترتيل ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، وغسل الميت وإعلان مواقيت الصلاة والإمامة وما إلى ذلك من نصائح وحكم من عبر دروس الحياة.
سلوك ومظهر "مُولْ الْحَانُوتْ" كان معلوما لدى مختلف الفئات الشعبية بالحي، بأناقته ونظافة دكانه، وطيبوبته وسخائه، وإيثاره ولو كانت به خصاصة، فهو متساهل مع الجميع دون تمييز، ومحط ثقة بين الناس، صاحب الكلمة الأخيرة على مستوى تدوين ما استهلك على أوراق "كَارْنِي لَكْرِيدِي"، لا يفهم "تَحْنِيشَتِهْ" حروفه "المسمارية" إلا هو، حيث يخط اسم المادة ورقم المعاملة ويذكرك بتفاصيلها في اليوم والساعة والغرض منها. وما عليك إلا أن تثق في الرجل وتؤدي ما بذمتك حتى تستمر المعاملة بشكل شفاف. أما إذا تأخر الأداء فلن تسمع منه إلا ما يرضي الله وعباده في انتظار الفرج.