أعراض أخرى لموت السياسة في الجزائر يمكن أن نتعرف عليها، في الأسبوع نفسه ونحن نعاين ما حصل على مستوى «الساحة السياسية» في البلد، كما ظهر في مؤتمرات وطنية لأحزاب سياسية، كما كان الشأن مع مؤتمر جبهة العدالة والتنمية لصاحبها عبد الله جبالله الذي أثبت أن صفة «صاحبها» هذه تليق به وتعبر عن فكره وسلوكه السياسي، بعد قراره الترشح لعهدة أخرى على رأس الحزب، وإلغاء منصب رئيس مجلس الشورى الذي كان على رأسه صديقه القديم لخضر بن خلاف، الذي أعلن عن استقالته من الحزب ليلة انطلاق مؤتمره، احتجاجا منه حسبما يبدو، على احتكار جبالله لمفاتيح السلطة على رأس هذا التنظيم، بضمه لصلاحيات المؤسستين التنفيذية والاستشارية.. استقالة كانت منتظرة على العكس من عبد الله جبالله، بعد النتائج الكارثية التي تحصّل عليها الحزب في آخر انتخابات تشريعية، كان ينتظر فيها الكثير استقالة الرجل الذي لم يعرف كيف يوفق بين عمله السياسي والدعوي، فضيع الأول دون أن يربح الثاني. وهو يستمر في مواقف معارضة لم تعد الساحة السياسية الوطنية تقبل بها من قبل هذا الإسلامي العقائدي، الذي تعرض لأكثر من انقلاب داخل أحزابه من قبل أقرب الناس إليه، بدءا من تجربة النهضة، مرروا بالإصلاح وصولا إلى جبهة العدالة والتنمية التي يبدو أن الرجل يستعد فيها لجولات جديدة من الصراع مع ما تبقى له من أنصار، متهم من قبلهم بالتصلب في المواقف والاعتداد بالنفس، بل بالنرجسية وحب الذات. صفات تعكس خصائص الشخصية القاعدية لأبناء جهته الجبلية الوعرة، في وقت سادت فيه الليونة والقابلية على الانغماس في اللعبة السياسية الرسمية، بين أبناء هذا التيار الإسلامي، الذي يوصف بالاعتدال في الجزائر بقاعدته الممثلة للفئات الوسطى وهي تعيش حالة تعطل لمصعدها الاجتماعي، الذي لم يعد يقبل داخله إلا الأفراد والشلل قليلة العدد. في وقت تخبرنا فيه معاينة الساحة الوطنية أننا نعيش حالة ضمور للسياسة في الجزائر على المستوى الرسمي والإعلامي، بعد القضاء على ما تبقى من جيوب لحياة سياسية لم يعد فيها مطلوبا حتى المؤيد والمصفق، ناهيك من المعارض الذي يتم التضييق عليه بأشكال مختلفة قد تأخذ شكل تجميد نشاط الحزب، أو التهديد بغلق مقراته ورفض السماح له بالنشاط التنظيمي الرسمي في أدنى صوره، كما حصل مع جمعيات حقوق إنسان معروفة في الآونة الأخيرة، فضّل بعض قياديها الهجرة إلى الخارج على شكل «منفى طوعي» حتى لا يتحولوا إلى واجهة فارغة يستغلها النظام السياسي للتدليل على انفتاحه وقبوله بالعمل الحقوقي، في وقت زاد فيه التضييق من كل نوع على الناشطين من مختلف العائلات السياسية. وضع ترتب عنه عدم إنجاز الحد الأدنى من نشاط لهذه الروابط الحقوقية لم يعد من الممكن القيام به داخل الجزائر. ممارسات لم تعد تجد من يتكلم عنها ويندد بها بعد غلق الساحة الإعلامية لتكتمل صورة جنازة السياسة في الجزائر التي انطلقت بعد إجهاض الحراك الشعبي الذي عرف على العكس حيوية سياسية كبيرة تميزت بدخول فئات جديدة للساحة السياسية، لم يكن معروفا عنها الاهتمام بها، كالشباب والفئات الوسطى التي نشّطت يوميات الحراك لأكثر من سنتين. اختفت فيها النخبة السياسية الرسمية التي تمت مطاردتها داخل الفضاء العام هي ولواحقها من المعارضة الرسمية. لم تتمكن من العودة إلى الآن بعد إفراغ الساحة لها من كل منافسة جدية.
تقلص الفعل السياسي برجاله ومؤسساته وخطابه، يمكن أن تكون له نتائج كارثية إذا استمر كاتجاه ثقيل، هذا ما تخبرنا به تجارب شعوب العالم التي عرفت ممارسات مشابهة، وضعية بدأت بعض الأصوات في التنبيه لخطورتها في المدة الأخيرة، وهي تعاين هذا الفراغ السياسي القاتل – أُفكر في عبد الرحمن حاج ناصر محافظ بنك الجزائر الأسبق ـ الذي يضع مؤسسات الدولة في مواجهة مباشرة مع مختلف القوى الشعبية، دون وسائط سياسية للتمثيل، للحوار والتفاوض، ألغاها تماما هذا النوع من التسيير السائد، السكران بروائح أموال براميل النفط والغاز المنبعثة من ساحات معارك الحرب الروسية -الأوكرانية، المعتمدة كخلفية لها على الثقافة التسلطية السائدة منذ الأزل بين الجزائريين ومن يحكمهم. سكرة تريد ان تحجب السماء عن الجزائريين وهم يعيشون شتاء كالربيع. يراد لهم الا يتعاملوا فيه إلا بالأسود والأبيض من الألوان، في بلد متوسطي جميل.
ناصر جابي/كاتب جزائري ( عن القدس العربي)