لكن تبعات الانقلابيين العسكريين في 1971 و1972 ضد المرحوم الحسن الثاني وأحداث مولاي بوعزة عام 1973 وانطلاق حرب الصحراء ضد الجزائر، كلها عناصر دفعت أطراف الحقل السياسي (قصرا وأحزابا) إلى التنازل المتبادل، فوقع انفتاح جزئي أثمر إنتاج ظهير 1976 الخاص بالجماعات المحلية الذي وسع فيه المشرع صلاحيات المنتخب وضيق سلطات ممثل الملك في أصغر وحدة قروية أو حضرية (أي القائد والباشا). ودون الدخول في حيثيات المراجعات التي تمت لاحقا، وابتكار الدولة لآليات قانونية ليسترجع بها ممثلها حق التدخل في تدبير الشؤون المحلية، فإن قراءة خاطفة لتجربة الجماعات المحلية ببلادنا منذ عام 1976 تسمح بالوقوف على حقائق مفجعة. ففي المرحلة الأولى (أي عقب صدور ظهير 1976) عاش المغرب فورة "ديموقراطية" (أو لنقل انفتاحا جزئيا) وكانت المرحلة مرحلة تعلمفي المرحلة الثانية (انتخابات 1983) عاش المغرب تجربة نقاش، وكانت بمثابة مرحلة السؤال، أي أن المنتخب يطرح السؤال حول حدود اختصاصاته والعامل يدلي بالحجج حول أحقيته في الاختصاص. لكن بعد الانتخابات الجماعية لعام 1992 سنعيش مرحلة بداية الانهيار المتمثلة في انتخاب ولد الدرب المعطل وولد الحومة "المقرقب"، وهو غزو قامت به "سلالة المقرقبين" بإيعاز من الدولة لكبح اندفاع الكتلة والرغبة في التحكم في الخريطة السياسية (خاصة في الثلث الناجي لأن المغرب آنذاك لم يكن يتوفر على غرفة ثانية) فتم الرفع من عدد الجماعات بشكل مهول، وتمت مضاعفة الدوائر الجماعية التي انتقلت من 11 ألف إلى حوالي 23 ألف مقعد جماعي. في انتخابات 1997، وتمهيدا للتناوب، سنعيش مرحلة الانهيار التام، إذ صعد منتخبون مولتهم مافيا المخدرات، وأضحت المدن في قبضة أباطرة الحشيش بشكل جعل الوضع ينفلت من أية رقابة. ورغم تفويض مرافق الجماعات إلى الخواص لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سيطرة تجار الحشيش وأباطرة الصفيح، فإن المطالبة بوحدة المدن من قبل عدة أحزاب، أفضى إلى تلبية الطلب بدون دراسة معمقة. وهذا ما يقودنا إلى استعراض مرحلة انتخابات 2003، أي مرحلة "وحلة المدن" وليس "وحدة المدن" لكون المنتخبين صعدوا إلى كراسي القرار مسنودين ببضع أصوات فقط للتحكم في مصير ملايين السكان بدون مشروعية بارزة أو تصور واضح أو برنامج متعاقد عليه لكون نمط الاقتراع "المخدوم" والتقطيع الانتخابي "المرسوم" لا يسمحان ببروز أغلبية منسجمة.
وفي المرحلة السادسة، أي انتخابات 2009 تم إمطار الرأي العام بشعارات من قبيل أن الأحزاب نضجت الآن وبإمكان منتخبيها تدبير المدن بتحالفات متينة، فإذا بالواقع يفرز لنا تحالفات هجينة أفضت إلى حروب ساقطة وصغيرة على حساب المصلحة العامة للمواطن. وإذا كانت السلطة في كل فترة تتذرع بتجنيد مافيا المخدرات أو أباطرة البناء العشوائي لتطويق خصومها السياسين (مثلا مع اليسار من قبل ومع الإسلاميين اليوم)، فإن المغيب الكبير من العملية يبقى هو المواطن الناخب ودافع الضرائب الذي سلب من أهم حق من حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في الاختيار الحر والحق في التوفر على نخبة محلية منصتة لنبض المجتمع ومترجمة لقلقه ولانشغالاته ولأولوياته حسب كل منطقة، فهل ستكون المرحلة المقبلة مرحلة مصالحة النخب مع المجتمع؟
الجواب بالإيجاب يبدو صعبا لأن رئيس الحكومة عبد الإلاه بنكيران بدأ منذ اليوم يمهد للتزوير والخطوط الحمراء وإشهار الوعد والوعيد تحسبا لسقوط مدوي لحزبه ولحلفائه في الانتخابات المقبلة. وهو كلام يستبلد المغاربة لأن رئيس الإدارة هو عبد الإلاه بنكيران.