حبيبي: عندما يعزف أبناء الوطن لحن الوطنية يتحقق الانتصار ويفتح القدر خزائن المجد والخلود...

حبيبي: عندما يعزف أبناء الوطن لحن الوطنية يتحقق الانتصار ويفتح القدر خزائن المجد والخلود... عبد الالاه حبيبي
كان اليأس قد بلغ ذروته وأشبع في التهام حماسنا نزوته، لقد قضينا من الدهر حينا ونحن نتحسر على تلاشي شعلة الوطن في السياسة والثقافة والرياضة والتجارة وتدبير الشأن العام... أصبحت الوطنية  حكيا من حديث الأجداد الذين قاتلوا بشراسة قل نضيرها في تاريخ البشرية كل الأعداء الذين تجرؤوا على غزو البلاد وفرض الوصاية عليه... كانوا رجالا ونساء في نفس الخندق بصنعون الملاحم في أعالي الجبال وفي السهول وفي كل نقطة عبرها المستعمر بحثا عن حيز يقيم  فيه مخيماته...
لم تكن لغتهم معقدة، ولا ضبابية كانت تلف قلوبهم، ولا خوف يشل إرادتهم، حتى ولو كانت وسائلهم بدائية لكن عقيدة الوطن كانت حية ، متيقظة، حفزتهم على صناعة المعجزات في القتال والصبر والالتفاف حول جذوة الوطن لمنع جحافل الغزاة من تحقيق مراميهم الخبيثة... تارة ينتصرون وتارة يتراجعون، لكنهم ضلوا للسواعد مشمرين، بالحق معتصمين، حتى ولو ذاقوا من كؤوس الشهادة الأصناف، ونالوا من التنكيل والعذاب أشكالا. لكنهم في الأخير ربحوا المعركة الكبرى، واستعادوا الوطن من الحجر والحماية ، وانبروا يتابعون المسير لبناء بلدهم ووضع الحجر الأساس لمستقبل أبنائهم وأحفادهم... 
في خضم هذا التاريخ تشكلت العقيدة الراسخة في حب الوطن وتطور الشعور بها مع التقدم في البناء والنضال، وهذا ما جعلها تصبح هوية راسخة  لكل الأجيال التي تلقت الاستقلال، ولقد تشرب جيلنا  منها ما يكفي من المعاني والعواصف، وحرص على أن لا ينكفئ وهجها، كانت في أعناقنا أمانة  تسلمناها من الجيل الذي عاش الاستعمار وويلات الإذلال، وقاوم بالحجر والمناجل والبارود حتى يقدم للخلف دروسا ملموسة في عزة النفس التي لا تنفصل عن حب الوطن والقتال لأجل أن يحيا ويستمر...
في المدارس كان المعلمون الوطنيون يلقنون هذه العقيدة، يحضون الصغار عليها، وفي الأزقة كان الآباء يعلمون، يسهرون على تربية الجميع على حب البلد والعرض والشرف، وكانت الرجولة عنوانا عريضا لهذه الشعلة المقدسة..عليها نشأنا ومن ثديها رضعنا حليب الصفاء والعطاء والاستعداد الدائم لأجل قضايا الوطن...  قاسية هي المهمة، عظيمة هي المسؤولية، لكن الرجال لم تكن تنقصهم الهمة ولا العزيمة، لا يغمر النوم جفونهم ليلا حتى يتأكدوا أن الوطن في أحسن حال وأنه مؤمن ومعافى، لهذا لم يكونوا ينتبهون لأحوالهم الشخصية إلا لماما، كانت نظرتهم للذات أنها مجرد وعاء يحمل روح العقيدة ويصونها يوم الميعاد... لهذا كانت الأنانية مكروهة، و الإيثار هو الذي يحدد معدن الرجال...
في حضن الأمهات كان الصبية يتهجون حروف الإخاء، يتمرنون على حب الوالدين والأقرباء والجيران، ومن هذا الحضن كان يشتق حب الوطن.. الثدي هو النبع الأول الذي منه تتشكل مشاعر الحرية والإباء، كان الثدي عنوان التصاق حقيقي بين الصبي وأمه، تمرر له الحليب والحب ورائحة الجسد المملوءة بعطر الأمومة الباذخة... في عز الفقر والتواضع والخصاص المادي كانت عزة النفس والعفة وحب الوطن أغنى رأسمال يمكن أن يسكن بيتا مغربيا في ابعد حارة أو أقصى دوار في أعالي الجبال.. لم يكن الناس يبالون بالأشياء أو الكسب المادي بقدر ما كانوا يحرصون على أن لا يقال عنهم أنهم لم يكرموا ضيفهم، أو لم يحترموا جارهم، أو قللوا الحياء على كبيرهم... هذا هو الهواء الذي تنفسه جيلنا وكبر ممسكا على زناده، حتى أدركنا زمن آخر، سيتلاشي فيه هذا البيت العتيق، وتنهار جدرانه حزنا وأسفا، ويحكم عليه الزمن الصاعد بالاضم حلال والغباء والسذاجة ليظل يداري مكر الأيام قبل الاختفاء...
لكن جذوة الوطن يرثها الأحرار، سرعان ما تعود إلى القلوب كلما عزف أبناء الوطن وتر الوطنية المنسي، وكلما أبانوا عنه في مقابل نكران الذات وما يتصل بها من رغبات ونجومية شخصية وشهرة وجشع نحو المال ... حينما يستيقظ الوطن  شعلة ملتهبة في عيون الشباب والصبيان فهذا دليل على أن حالنا لازال فيه الخير والكثير من الدرر لهذا اتركوا الوطن يحيا في قلوبنا، واتركوا حبه ينثر عطره على كل مفاصل البلاد واجعلوه أهم درس يقدمه السياسيون، وأغلى قيمة لا يمكن التفاوض بشأنها، ورسخوا سلطته حدا فاصلا بين الجد والهزل، وسترون المعجزات التي لم يتخيلها عقل ولم يخطط لها ذكاء...