حسن مخافي: البعد النقدي للممارسة السياسية

حسن مخافي: البعد النقدي للممارسة السياسية حسن مخافي
كل عمل سياسي هو إحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع، يبدأ بعدم الرضى عن أوضاع معينة وينتهي بالتطلع إلى تجاوزها والعمل على تغييرها. يرافق ذلك التأكد من امتلاك الأرضية الفكرية المؤطرة لكل عمل سياسي، وشحذ الأليات الضرورية القادرة على حشد التأييد لوجهة النظر المدافعة عن التغيير، والبحث عن الطرق الناجعة التي بواسطتها تتبلور وجهة النظر تلك شيئا فشيئا، لتصبح موقفا جماعيا فبرنامجا سياسيا فواقعا ملموسا.
هكذا تغدو كل ممارسة للسياسة بالضرورة بديلا عن ممارسة أخرى، وتصبح السياسة في جوهرها عملية جدلية للهدم والبناء، تمليها الطبيعة المتحولة للمجتمع نفسه. ومن هذه الجدلية نفسها تستمد السياسة طابعها النقدي الذي يفرض المراجعة الدائمة للمواقف والممارسات.
هذا يعني أن السياسة في جوهرها هي موقف جماعي من "هنا" و"الآن"، يأخذ طابعا مؤسساتيا عندما يتحول إلى حزب سياسي، يبشر بوضع جديد، يجسده برنامج موجه برؤية واضحة إلى الحياة والإنسان.
إن كل رؤية مهما كانت أقرب إلى "الواقع"، لا تمتلك حق استبعاد الرؤى المخالفة، لأنها تتسم بنسبية كبيرة ولا تمتلك "الحقيقة". فحين يتعلق الأمر بالمجتمع الموسوم دوما بالتعدد والتنوع، فإنه لا مجال للحديث عن الحقيقة في المطلق، بل عن الرأي والرأي المخالف، اللذين ينتظمان في حوار سياسي، قد يفضي إلى توافق على أرضية مشتركة، تنتج تعايشا من نوع ما.
وكل توافق ينبع من التنازل عن الأسس الكبرى للرؤية التي يحملها هذا الحزب، يصبح تلفيقا لأنه يفتقد إلى الشرعية الفكرية والسياسية التي تأسس عليها الحزب. آنذاك تكف "السياسة" عن أن تصبح سياسة بالمعنى المشار إليه.
على ضوء ما سبق فإن من خصائص المشهد السياسي الوطني في العقود الأخيرة، أنه بات يغيب وجهة النظر التي من المفروض أن تكون مبنية على خلفية فكرية لها معالم، والتي تعكس رؤيته إلى المجتمع، لصالح "توافقات" تجهز في الكثير من الأحيان على الأسس والمبادئ التي تستمد منها الأحزاب شرعية وجودها.
وهكذا فإن التحالفات السياسية التي تحاك عقب كل انتخابات برلمانية لا تنبني على تقارب بين البرامج التي هي تجسيد حقيقي لوجهة النظر، بل على تقاطعات ظرفية قد يكون من الصعب استساغتها بالمقاييس السياسية المتعارف عليها. ينسحب هذا على الأحزاب المشكلة للحكومة، كما ينطبق على الأحزاب التي توجد خارجها.
صحيح أن أحزاب الأغلبية تجلس عقب تشكيل كل حكومة، إلى بعضها وتصوغ ما تسميه "برنامجا حكوميا". وهو برنامج يجرد بعضها من هويته التي اكتسبها عبر التاريخ ويجعل بعضها الآخر يتنازل عن "مرجعيته" التي حشد بها أصوات الناخبين.
ولكن هذا "البرنامج" الذي تصاحبه في بداية كل ولاية برلمانية ضجة إعلامية كبيرة، تتمخض عنها تساؤلات كبرى حول طبيعة التحالف الحكومي باختلاف مكوناته وتناقضها في بعض الأحيان، يصبح في خبر كان، ولا يعود له ذكر، بمجرد أن يلتحق كل وزير من الوزراء المعينين بمكتبه. وقد يحدث تغيير جوهري على الحكومة بانسحاب أحد مكوناتها الرئيسة وتعويضه بحزب آخر، دون أن تتبع ذلك مراجعة من نوع ما للبرنامج الحكومي، على الرغم من كل مكون جديد في الحكومة يقتضي من حيث المبدأ والمنطق، إعادة النظر في البرنامج الحكومي وفق المتغيرات الجديدة. ولكن هذه المراجعة لا تتم فيصبح المكون الجديد متبنيا لسياسة غيره وعاملا بها. وهكذا يصبح "البرنامج الحكومي" الذي يوقع عليه زعماء أحزاب المشكلة للحكومة، تحت أضواء الكاميرات مجرد وثيقة للاستهلاك الإعلامي، تنتهي صلاحيتها بمجرد التوقيع عليها.
أما الأحزاب التي توجد خارج الحكومة فإن وضعها لا يقل ضبابية وغموضا. ذلك أن إمكانية التوصل إلى صياغة "برنامج عمل" بديل عن "البرنامج الحكومي" تجتمع حوله، تظل معدومة بحكم التباعد المرجعي فيما بينها. ومن هنا فإن عملها داخل البرلمان لا يتعدى "ردود أفعال" على تدبير الحكومة للشأن العام، الشيء الذي يحول دون أن تصبح قوة اقتراحية قادرة على أن تلعب دورا فاعلا ونافذا في إغناء النقاش السياسي العمومي، بما يوفر الشروط الضرورية للتداول السياسي.
وإذا حدث أن اجتمعت حول مسألة ما، فإن ذلك يشكل خطوة محتشمة وجزئية وظرفية، لا تحمل في طياتها أي أفق للمستقبل المنظور.
إن ممارسة السياسة في ظل هذا المشهد الذي يطبعه التشتت ويعوزه المنطق في بعض الأحيان، يساهم فيما يلاحظ اليوم من زهد في الإقبال على الانخراط في العمل السياسي الذي لم يعد يقنع فئة واسعة من الشباب المتطلع إلى مفهوم جديد للسياسة. وهو المفهوم الذي يرتكز على رؤية نقدية تفتح الطريق للمستقبل، ويعكس في نفس الوقت صعوبة الحديث في التجربة المغربية عن يمين أو يسار وعن أغلبية ومعارضة.