رضا الفلاح: الجزائر في الخطب الملكية ومشروع التغيير الإيجابي للأفكار والتمثلات عن المغرب

رضا الفلاح: الجزائر في الخطب الملكية ومشروع التغيير الإيجابي للأفكار والتمثلات عن المغرب رضا الفلاح
إن الفكرة الكبرى التي تسكن عقل ووجدان الطبقة العسكرية الحاكمة في الجزائر منذ استقلالها هي فكرة العداء تجاه المغرب، وقد أنتجت هذه الفكرة تمثلات متراكمة لما يمكن تسميته بالهوية الجزائرية ليس بمفهوم ثقافي محض، ولكن بمفهوم سياسي، أو بمعنى أدق كيف تنظر الجزائر إلى نفسها وكيف تقيم وزنها، وبناء عليه كيف تتشكل مصالحها  بغض النظر عن واقعها المادي وعن بيئتها الجيوسياسية.  إن هذا الأمر هو في غاية الأهمية لفهم سلوك الجزائر الخارجي وبالتحديد تجاه جارها الغربي المملكة المغربية.
الجواب عن سؤال الفهم في ذهنية النظام الجزائري هو بطبيعته أحادي الجانب، أي أنها لا تنظر إلى ذاتها ولا تعرف نفسها هوياتيا إلا تعريفا بالسلب أي على نقيض المغرب، وقد انتهى تشددها في التعريف بالسلب إلى النتيجة العكسية أي إلى الوصول إلى بداية الحلقة، و هو ما يفسر الإصرار الجزائري على تملك عدة عناصر من الهوية المغربية، وهنا أعني الهوية بمفهومها الثقافي والحضاري وقد يمتعض الكثيرون من ذلك، وقد يرى فيه البعض الآخر أمرا محمودا وجسرا لتجاوز القطيعة. لكنه على الأقل في الوقت الراهن لا يخضع لتأويل مغربي جزائري مشترك، لأن ما يليه من تمثل  للمصلحة من زاوية فهم جزائرية يرادفه إلحاق خسارة بالمغرب من نفس زاوية الفهم الذاتية.
بالرجوع إلى الخطب الملكية الملقاة في عدة مناسبات في غضون السنوات الأخيرة، وتحديدا في معرض حديثه عن العلاقات المغربية الجزائرية، يمكن القول أن الملك محمد السادس يتجه إلى معالجة أصل الداء من منظور بنائي constructivist approach عبر نهج سياسة معالجة التمثلات والأفكار التي سكنت العقل الجزائري بشأن المغرب على مدى عدة عقود. 
تندرج ضمن هذا التوجه سياسة اليد الممدودة والدعوة المفتوحة إلى الحوار البناء وتسوية الخلافات، وتتجاوز الدعوة الملكية مجرد الرغبة في طي صفحة الماضي،  بل وتسعى إلى بناء أعمدة فهم مشترك لمصالح البلدين في أفق مستقبلي، وهو ما عبر عنه العاهل المغربي في خطابه بمناسبة  الذكرى الثانية والعشرين لعيد العرش (2021) عندما جدد دعوته السلطات الجزائرية إلى "تغليب منطق الحكمة، والمصالح العليا". وفي خطاب آخر سنة 2022  (الذكرى الثالثة والعشرين لعيد العرش) يوجه الملك رسالة واضحة إلى الرئيس الجزائري:"أتطلع للعمل مع الرئاسة الجزائرية حتى يتمكن المغرب والجزائر من العمل يدا بيد من أجل إقامة علاقات طبيعية". وعليه، يمكننا تلخيص السياسة الملكية بالعبارة التالية: لا يهم كيف ينظر كل واحد منا لنفسه، لأن ما يهمنا أكثر هو كيف ننظر سويا لأنفسنا. ويتجسد ذلك في سعي الملك لتحديد إيجابي لمسألة الهوية (تصور معين عن الذات وعن المصلحة) قائم على فهم مشترك، ونستحضر هنا وصف الملك للبلدين بأنهما :" شعبان شقيقان، يجمعهما التاريخ والروابط الإنسانية والمصير المشترك".
يتضح جليا أن المصطلحات والعبارات في دلالتها تحيلنا إلى قيم وأفكار  جديدة يريدها الملك أن تحل محل القيم والأفكار القائمة في عقلية النظام الجزائري. وما يثبت دقة الرؤية الملكية هو ربطه في خطاب العرش (2021) بين إغلاق الحدود وإغلاق العقول عندما قال أن:"  الحدود المغلقة لا تقطع التواصل بين الشعبين، وبل تساهم في إغلاق العقول" . تتسم السياسة الملكية ببعد النظر في كسر التمثلات السلبية والإيمان بقوة الأفكار وثقل الهوية في مشروع بعيد المدى من أجل تغيير السلوك الجزائري تجاه المغرب بغض النظر عن الفئة التي تملك السلطة اليوم أو ستملكها غدا بالجارة الشرقية.
إن الخيط الناظم للخطب الملكية فيما يخص العلاقات المغربية الجزائرية هو حرصه الشديد على استئصال فكرة العداء من العقل الجزائري، لكن ردود الفعل من الجانب المقابل تدل على الامتعاض والرفض لأن عداء المغرب هو غذاء إيديولوجي للطبقة الحاكمة أو بالأحرى ما تعتقده. ولهذا فإن العودة إلى مسألة المعتقد أو العقيدة تبرز مدى إصرار النظام الجزائري على الانغلاق عبر قطع العلاقات الدبلوماسية وقطع الأجواء، وأيضا سياسة اتهام الجار عندما يقع أي مشكل بالجزائر. ولهذا فقد اتجه الملك محمد السادس إلى المزاوجة بين خطاب الود والتهدئة من جهة، وخطاب الإقناع بحسن النوايا من جهة ثانية عندما يصف المغرب والجزائر بالجسم الواحد في إشارة واضحة إلى ضرورة تطوير المناعة الداخلية ضد الكيانات الدخيلة، ويرسل في هذا الصدد رسالة بليغة إلى كل الجزائريين أن:" الشر والمشكلات لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن يأتيكم منه أي خطر أوتهديد". لا شك في كون التشبيه بالجسم الواحد يحمل دلالة ناصعة ومعبرة بأنه لا يصح ولا يستقيم إطلاقا أن تتصرف دولة ضد هويتها، والهوية هنا مادية ورمزية :" مايمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا" (الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش 2021).
في السياق الراهن، يصعب التكهن بمستقبل العلاقات المغربية الجزائرية حتى وإن هيمنت النزعة السلبية والمواقف غير الودية من الجانب الجزائري، لأن إزاحة التمثلات في العقل الباطن ليست بالمشروع الهين، بل هي عملية معقدة قد تأخذ زمنا طويلا ولكنها عملية ضرورية دشنها الملك محمد السادس ويستمر في تشييدها. علاوة على مكانة هذه السياسة كعمل استراتيجي تقوده المؤسسة الملكية، فإنها تشكل قدوة ونموذجا للاحتذاء بها، وتستلزم جهودا في نفس الاتجاه من قبل النخب والمواطنين في كلا البلدين على جميع المستويات، خاصة في عصر التواصل الرقمي حيث تؤثر تكنولوجيات الاتصال الحديثة بقوة سواء في هدم أو في تشييد التمثلات والأفكار.