بعدما أنهيت قراءة كتاب «الأمير المنبوذ»، وجدت أن البروفيل الذي يرسمه هذا الكتاب عن مؤلفه مولاي هشام العلوي هو نفسه الذي تكون لدي من خلال علاقة شخصية ربطتني بالأمير في لحظات متقطعة من مساري الإعلامي. وقد تأكد لي خلالها أن فكرة الرجل هي دائما: الإصرار على هدم مملكة محمد السادس وبأي ثمن.
عبد الرحيم أريري
كان أول اتصال بيننا سنة 1999 (أو بداية 2000) إن لم تخني ذاكرتي، ضمن لقاء حضره عدد من الصحافيين المنتمين إلى عائلة اليسار وإلى الصف الديمقراطي، وذلك في غمرة الترقب السياسي الذي كان يطبع تلك المرحلة من التاريخ السياسي للمغرب، الموسومة بالحوار بين الأحزاب الوطنية والقصر من أجل توطيد مشروع التناوب الذي تحقق في أواخر حكم المرحوم الحسن الثاني، بعد أن فشلت مسودته الأولى سنة 1992. في هذا السياق كانت كتابات الأمير التي بدأ يكتبها منذ أواسط التسعينات حاضرة في قاعات التحرير بمختلف وسائل الإعلام المغربية، وهي مقالات كانت تعبر عن نفس جديد يطمح إلى إصلاح البلاد، بما ينسجم مع خطنا التحريري في الجريدة التي كنت أشتغل فيها آنذاك (الاتحاد الاشتراكي) من أجل استكمال الإصلاح الدستوري، والقطع مع الفساد وتحقيق شروط البناء الذاتي. كان المشترك الإيديولوجي بيننا إذن، كما تصورت الأمر في البداية، هو الطموح في مغرب جديد يتخلص من ذاكرة الرصاص ومن قبضة اليد الحديدية، خاصة وأن المؤشرات في بداية العهد الجديد كانت واعدة، وكانت تشير إلى أن المغرب يتقدم بجدية على درب الانتقال الديموقراطي.
في السياق ذاته تطورت علاقاتنا يوما بعد يوم، سواء على مستوى اللقاء الشخصي أو عبر الهاتف، بهدف تبادل الأفكار بخصوص مستجدات الحقل السياسي الوطني والعربي والدولي أو حتى تبادل النكت. كان الصحافي ينصت إلى الأمير بكل الوقار المطلوب، اعتقادا منه أن الإنصات فضيلة قد تنير بعض معالم الطريق، وقد تساعد على انقشاع كل غيمة في هذه الطريق. فقد كنت أجد في الرجل صدى قريبا مما أفكر فيه بخصوص حاضر البلاد ومستقبلها، تترجم ذلك مواقفه وكتاباته إزاء مشروع التناوب، وتقديره الإيجابي للأعطاب الذاتية والموضوعية المرافقة لكل انتقال ديموقراطي. لكن مع تنظيم الانتخابات التشريعية لعام 2002، وما تلاها من تعيين إدريس جطو وزيرا أول وخطاب بروكسيل الشهير للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، بدأت ألاحظ أن المديح العالي لليوسفي ولتجربة التناوب صار يتبدد لفائدة هجاء مقيت. فقد غير الأمير عقرب البوصلة نحو انتقاد التناوب ومسار اليوسفي نفسه عبر التنكر لكل الأمل الذي فجرته حكومة التناوب لدى المغاربة، ولكل أوراش الإصلاح التي واكبت هذه التجربة، سواء في ما يهم الجوانب الحيوية للمواطن المغربي، أو ما يهم البناء الإستراتيجي للدولة ولصورتها في المحافل الدولية. الأمر الذي صعب علي تقبله، لا لأن الأمير انقلب 360 درجة، ولكن لأنه صار يطعن في رجل لم أعرفه فقط كعلم من أعلام الحركة الوطنية أو كأيقونة المغرب الحديث، أو فقط كمناضل يساري مؤمن بالعقيدة الديمقراطية إلى النخاع، ولكن عرفته بالإضافة إلى ذلك عن قرب، إذ أني اشتغلت تحت إدارته حين كان مديرا لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» طيلة سنوات. وكانت تلك الفترة إحدى أزهى فترات حياتي المهنية، فخلالها خبرت إنسانية اليوسفي وطهرانيته ونزاهته وغيرته على الديموقراطية وعلى البلاد، كما كان على المستوى الشخصي سندا لي سواء كصحافي شاب يطمح إلى الجرأة على طرح الملفات الكبرى، أو حين عبد لي الطريق في المنتديات والمنظمات الدولية، ودوره الكبير في إدخالي إلى النادي الحقوقي الدولي (اللجنة الدولية لحقوق الإنسان، الصليب الأحمر الدولي، المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ، إلخ...) المجال الذي كان اليوسفي يتمتع فيه (ومازال) بسمعة عالية جدا.
موازاة مع هذا الهجاء إزاء تجربة اليوسفي بدأت النقاشات تتمحور أكثر حول الجالس على العرش وحاشيته، وهل هناك رغبة في إصلاح البلاد، أم فقط هناك روتوشات لإيهام الرأي العام أن المغرب يتقدم. وكلما تزامن اللقاء مع حادث أو إضراب أو مسيرة احتجاجية لساكنة منطقة معينة إلا وكان الأمير متعطشا لمعرفة ردود الفعل الشعبية، ليس لمعرفة هل تم حل المشكل كذا أو كذا، أو تمت الاستجابة لمطلب العمال أو السكان المحتجين، بقدر ما كان متلهفا لمعرفة أدق تفاصيل نبض الشارع تجاه المؤسسة الملكية، وهل ازداد منسوب الاحتجاج أم انخفض أم استقر في حدود معينة. أذكر يوما أني قلت له «إن المغاربة في أغلبيتهم الساحقة لا يريدون سوى «التعادل»، أي لا يريدون سوى مقعد في مدرسة ومنصب شغل لأبنائهم وشوارع آمنة لبناتهم وحدائق لأطفالهم، أما الفصل 19 من الدستور (لم يكن الدستور قد عدل آنذاك) وتغيير اختصاصات الملك والبرلمان فهو انشغال النخبة العالمة». فرد علي بالقولة الشعبية المأثورة: «جوع كلبك يتبعك». فقلت له: «الجوع كان في عهد الحسن الثاني أفظع». فأجاب: «الحسن الثاني كان «كلاص» Classe». في هذه الأثناء بالذات بدأت مصاعب مولاي هشام مع المخزن تبرز للعلن، وبقدر ما كانت خرجاته تتزايد ضد من كان يسميهم بـ «كلاب الكرنة»، بقدر ما كان صبيب اتصالاته معي (ومع فاعلين آخرين) يرتفع هو الآخر: «شفتي آسي أريري آش دارو عاودتني هاذ الكلاب». ولا أخفي أنه رغم امتياز الدراسة الجامعية وامتياز مهنة الصحافة وامتياز الاشتغال قرب سياسيين من عيار ثقيل، وامتياز الرفقة الطيبة في الجسم الصحافي بشكل تجعلني (أي هذه الامتيازات) على قدر من تفكيك خبايا تصرف ما أو قرار معين ما، فإن ذلك لم يشفع لي في إدراك التصرف المتوتر لمولاي هشام. فحينما ألتقيه تكون الجلسة بمثابة جلسة «جلد المخزن وحاشية الملك»، وجلسة احتقار النخب السياسية بالبلاد.. وكلما قمت بتغليب كفة الصحفي لطرح أسئلة عليه لمعرفة الملابسات الحقيقية ازداد غضبه.
الخيط الهارب
ذات يوم سألته: «اسمح لي مولاي هشام (وهو اللقب الذي كنت أستعمله في التخاطب أو أستعمل لفظة الشريف) راه الخيط هارب لي شويا.. حينما نتحدث عن المغرب تصوره وكأنه جهنم، ولما نتحدث عن أمراء وملوك الخليج تقدم هذه الدول وكأنها الجنة. ألا يوجد في الموضوع مبالغة ومفارقة. فالمغرب إذا أسقطنا «الميزيرية» وغياب النفط، هي أحسن بكثير من دول الخليج. وتأسيسا على ذلك فالأولى بالنقد هم هذه الدول، ثم «أرى برع في السليخ» في المغرب». فأجاب قائلا: «بزاف على امهم يكونوا بحال الخليج». فقلت له: «أنا صحافي وزرت هذه الدول ويصعب هنا بالإطلاق أن نجزم الجواب. فالسعودية فيها 20 ألف أمير وكل واحد يجر البلاد في واد، وكل واحد عندو بير ديال النفط أو منطقة يسيرها كما يريد. في حين في المغرب عندنا ملك واحد كنتحاسبو معاه في دستور. صحيح وقعت ردة في عام 2002، ولكن ماشي نهاية التاريخ. فالحياة في كل الدول فيها صراع وأخذ وعطاء.. اليوم علي وغدا عليك.. وخصومك يتهمونك بأنك محيح لأنك باغي تقسم الحكم مع محمد السادس بحال السعودية ويعطيك شي حاجة...». فأجاب بنرفزة: «أنا ما باغي حكم ما باغي حكام، أنا باغي تصلح لبلاد والمؤسسة الملكية».
في سنة 2005، وبالضبط بعد سنتين ونصف على إصداري لأسبوعية «البيضاوي»، سألمس انقلابا ثانيا في تفكير الأمير، تمثل هذه المرة في تحول اتجاهه نحو الإسلاميين الذين بدأ يراهم رهانه الجديد، وإمكانية أخرى يعقد حولها الأمل سعيا لتحالف جديد، وبحثا عن نخبة مختلفة تقوم على ما يعتبره أنقاض النخبة التقليدية التي استنفدت شرعية الحركة الوطنية. ولعل هذه واحدة من النقط التي فاجأتني (وأنا ابن اليسار) لأني صرت أرى الرجل يتحول من الأقصى إلى الأقصى بدون بوصلة. إذ ما الذي يمكن أن يقنعني به الأمير وهو يتنصل من الرهان على الانتقال الديموقراطي وعلى الديموقراطيين إلى الرهان على الإسلامويين؟ وفي الواقع لم أجد لهذا التحول من مبرر سوى نوع من الانتهازية السياسية، خاصة أن مناخا دوليا جديدا صار يحاول الإقناع بأن تيار الإسلام السياسي يمكن أن يستوعب شروط المرحلة الجديدة بعد فشل الأطروحات العسكريتارية والقومية واليسارية في الشرق، وعلى امتداد العالم العربي والإسلامي. وفي هذا الإطار بدأت مراكز الاستطلاع الغربية والأمريكية بشكل خاص تروج لفكرة أن الإسلاميين المغاربة قادمون، وسيحصلون على نسبة 47 في المائة من نتائج التشريعيات التي كان مقررا إجراؤها سنة 2007، ما يعني أن هذه المراكز بصدد تمرين يهيئ المغاربة لاستقبال الولاية الإسلامية كما تريد ذلك أمريكا.
الأمير الذي يساند فكرة التحول الديموقراطي صار ضد اليوسفي. الأمير الحداثي يعتنق النزوع الأصولي. الانقلاب في الموقف ترجمة للانقلاب في زاوية النظر، وفي الناظر لا المنظور. هذه القناعة ستزداد ترسيخا لدي حين صار هذا البعد حاضرا في كتابات الأمير في ذلك الوقت حيث يدعو إلى التحالف مع الإسلاميين بناء على عقد بيعة جديدة، وإلى انتقاد المخزن والتهليل لثورة في المطلق. في هذا الوقت بالذات فوجئت بمولاي هشام يطرق مسامعي بمقترح عرض يتم بموجبه دعمي لإطلاق مشروع إعلامي كبير يضم أسماء متنوعة، اقترح له الأمير غلافا يبدأ بمبلغ 2 مليار سنتيم، وقد يصل إلى 5 مليار سنتيم إذا تطلب المشروع ذلك. كان العرض بالنسبة إلي صادما ومهينا لاعتبارين: الأول، لأنني تلقيته عبر زميل من الجسم الصحافي (يستقر حاليا في أوروبا ويعد من المقربين من الأمير)، ذلك أنني تلقيت مكالمة منه يرغب في اللقاء معي. وذلك ما تحقق بالفعل بالنادي البحري الأمريكي «سيمنس» القريب من ميناء الدار البيضاء. ومباشرة حدثني هذا الزميل عن رغبة الأمير. قال لي زميلي: «الأمير يفكر في خلق مؤسسة إعلامية يومية كبرى ومستعد أن يضخ فيها 2 مليار، وعليك أن تلتحق بها وتتولى جلب أسماء وازنة. وإذا تطلب الأمر فالغلاف قد يصل إلى 5 مليار.. فهو في حرب، والحرب تحتاج للمال، والمال موجود، خاص فقط غير الرجال للانضمام للمشروع».. وفي الواقع لم أفهم لماذا اعتماد هذا النوع من الوساطة، في حين كان بالإمكان أن يتم ذلك مباشرة من طرف الأمير نفسه، خاصة وأني كنت على اتصال دائم به إما عبر الهاتف أو من خلال اللقاء الشخصي. وبسرعة فهمت أن الإهانة لها هدف مزدوج: الأمير يريد ابتلاع تجربتي الصحفية الناشئة وإقبارها لكن بحضور الشهود، وتشغيلي ملحقا إعلاميا في مشروع ملتبس أمواله تتقاطر من الأمير دون أن يظهر هو في الصورة. أما الاعتبار الثاني فيرتبط بكون العرض يتم بناء على دفتر تحملات أساسه الالتزام بانتقاد العهد الجديد، وتسفيه وتبخيس مرحلة الملك محمد السادس، بآمالها ومكتسباتها، وبالتالي الانقضاض على السلبيات وتضخيمها لتأكيد استحالة التغيير في المغرب، ولاستنتاج ما هو أفظع: فشل الملك الجديد في تدبير شؤون المملكة عبر استهداف كل ما هو مسيء للملك محمد السادس، وتضخيم أي حادث مهما كان تافها لخلق انطباع لدى الرأي العام بأن الأمور لا تسير على ما يرام في عهد محمد السادس، وهي إستراتيجية مقتبسة من الإعلام الغربي المملوك من طرف كبريات اللوبيات التي تؤطر الرأي العام بـ Dosage (الجرعات) كل يوم تأتي بخبر يصب في قالب مؤطر ومخدوم حتى يمر الزمن في فترة قصيرة ليصبح المتلقي مقتنعا بأن الملك «خايب». من ثم استنتجت أن هذا المشروع (2 مليار...) ليس معزولا، إذ يدخل في إطار رؤية تكاملية مع محاولة استمالة صحافيين آخرين في الصف الديمقراطي لتشكيل حزام يطوق محمد السادس ويشوش عليه ضمن ما يمكن اعتباره إستراتيجية تفتيت واضحة. ومع ذلك كتمت غيظي، وعقدت معه الاتصال لنلتقي بـ «فيلته» خلف فندق هيلتون بالرباط، بعد أن وضعنا، كما العادة، هواتفنا في قمطر مكتبه، وخرجنا إلى الحديقة، وجلسنا فوق العشب... وقال لي: «آسي أريري وخا نديرو تيلفون في الماء صحاب الوقت راهم زارعين الميكروفونات في كل بلاصا، في الشجر، في الضوء... شحال كدي ما نحضي». قلت له: «يمكن أن نتجنب التجسس عبر تبادل الحديث بحركات الميم أو عبر تبادل أوراق مخطوطة». قال لي: «عارف، ولكن خاصني نعرك (من العرق) أمهم بزاف ويحلو (من الحلال) فلوسهم».
كان الأمير شديد الهوس من أنه مراقب وتخضع كل تحركاته ومكالماته للتصنت. قلت له: «أنت أمير ودايرين فيك هاد الروينة. آش بقى لينا حنا لمزاليط ديال الشعب. ومع ذلك حنا لمزاليط أحسن منكم.. على الأقل ما عندناش علاش نخافو. فأنا مثلا كنت أحلم باش نكون «فرملي» (أي ممرض)، لكن الحمد لله رحمة ربي كانت أوسع سهل لي الطريق وقريت وأصبحت ليس صحفي فقط، بل مدير جريدة.. آش غادي يديرو لي كاع.. وخا يبقاو يطيحوني ما عمر باباهم يوصلوا للحلم الأول ديالي، أي غادي نبقى ديما فوق الحلم ديالي. ودابا آسي شريف جيت لعندك باش نهضر معاك في موضوع المشروع الإعلامي. أنا فعلا محتاج لأي درهم باش نحطو في جريدتي، وصحاب الإشهار دايرين حصار عليا لأني كنكتب على مواضيع لا ترضي ربما أصحاب الحال وأصحاب الحبة، لأنهم خايفين.. ولكن علاقتي بك كانت منذ البدء علاقة ديال الاحترام. أنا عارف عندك «بوكو فلوس» (Beaucoup) وأنا محتاج باش نطور الجورنال ديالي، لكن ما عمرني طلبت منك شي ريال وما غادي نطلب منك حتى ريال.. علاقتي بك بحال مثقفي الكويت للي كيتلقاو في «الديوانيات». فأنت ماكتمشي لا إلى «بار» ولا إلى «دار» باش نهضر معاك. فهذه الفيلا ديالك هي «الديوانية ديالنا» فناقش ما نحب من مواضيع.. وإلى بغيتي تعاوني دوي مع صحابك في الشركات والأبناك يطلقوا الروبيني ديال الإشهار». قال لي الأمير: «الإشهار ما كنتحكم فيه لا أنا ولا أنت، ولهذا فها هي لفلوس، خدم على راسك باش نفضحوا هاذ لفساد. أنت صحفي ديال التيران وعارف لبلاد مزيان وعارف كيفاش تحط الشوكة على الدبرة. سخن الطرح وركز على كل ما يخدم تصورنا. هاذ البلاد ماشي ديالهم، وخاصنا نتعاونو باش نعريوهم. أنت من جهتك وهاذاك من جهتو، حتى نكثرو عليهم الضغط ونطيحو الثقل». اعتذرت للأمير عن ذلك العرض السخي بأدب احتراما لطبيعة المقام. وقلت له: «كون هاني آ الشريف، نهار نحتاج غادي نجي نعتصم ليك هنا في الفيلا.. ودابا ما عنديش وما خصنيش، وأنا باغي نبقى بعيد عن هذا الموضوع. والحمد لله للي مو في العرس ما يباتش بلا عشا... فمحمد برادة الله يجازيه (برادة كان هو المدير العام لشركة سابريس وشركة ورق بريس التي تزود الجريدة بالورق) مرة نخلصو ومرة يصبر علي، والمطبعة ديال إيكوبرينت فيها ناس غزال وحلوة.. مللي كنتزير كيرخفو علي.. وخوك عايش والحمد لله. ها علاش الواحد فينا خاصو يحلم شوية ماشي بزاف. ياك قلت ليك بأني كنت كنحلم نكون «فرملي». كيتك أنت للي أمير وكتحلم فوق سقف الأمير. ناري نهار تطيح، شحال واعرة الطيحة». انفجر ضاحكا وأقفل باب الموضوع بقوله: «الدار دارك وأنا خوك نهار تحتاج دق علي.. أنا موجود».
كابوس الأمير
وفي صيف سنة 2007، بعد المحنة الظالمة التي تعرضت لها جريدتنا «الوطن الآن»، جدد الأمير مولاي هشام الاتصال بي فور خروجي من الاعتقال قائلا: «أهلا أسي أريري، آش خبارك.. ياك ديما كنقول ليك راهم ما يعرفو لا دين ولا ملة. قل لي، واش سولوك علي في التحقيق. راني سمعت وقريت بأن البوليس كان يسألك عن علاقتي بك في الفرقة الوطنية للشرطة القضائية». أجبته: «نعم سألوني عن ذلك». قال: «واش بغاو امهم». قلت: «أجبتهم بأني أعرف مولاي هشام وهو مثقف مثل سائر المثقفين الذين نلتقي معهم كصحافيين.. وهو يفتح داره لكل الصحافيين. فأنا صحافي لو التقيت الشيطان سأجلس معه لأسأله لماذا لم تسجد لسيدنا آدم». رد علي: «راه الشيطان هو للي كنتي عندو. أما إبليس فهو أحسن منهم. ودابا أشنو كتدير؟». أجبت: «الصحفي مثل الجزار ديما طابليتو (كسوته) عامرة بالدم. فالجزار لما يدخل لمحله ويشرع في تقطيع اللحم لا يشتكي إذا تطايرت عليه نقط الدم ووسخت ملابسه، فكذلك الصحفي.. فأنا اخترت خطا تحريريا وأتحمل مسؤوليتي.. وأنا درت الصحافة وداخل ليها عن معرفة بالمخاطر». قال لي الأمير: «أنت تعرفني، إذا خاصك أي حاجة لا تتردد.. وبالنسبة للغرامة لا تضرب حساب.. أنا مستعد نخلصها ليك باش ما حكمو على الجريدة». ومرة أخرى رفضت العرض بأدب، وشكرته كثيرا على مبادرته. واستمر الاتصال بيننا بشكل متباعد إلى أن انقطعت العلاقة بيننا، مع الإبقاء على المسافة مع ما يستلزم ذلك من شروط الاحترام الذي يكنه كل مغربي للشرفاء.
أعيد التذكير بهذه التفاصيل على هامش صدور كتاب «الأمير المنبوذ»، لأنني مثل كل المغاربة معني بكتاب يتناول شؤونهم، ومعني كذلك بصورة الملكية التي أتوق مثل كل الديموقراطيين إلى أن يتعزز وجودها الدستوري في أفق ديموقراطي حداثي. ولا يمكنني بالتالي، كإعلامي وكمواطن أن أقف على منطقة الحياد وأنا أرى فكرا مهترئا، ووطنا يشوش عليه بسلوك مرضي يسيء إلى اسمه الشخصي، وإلى رصيد المغرب، وإلى الملكية التي التف حولها المغاربة منذ قرون طامحين إلى تطورها خطوة خطوة. هكذا كان سلوكي وتفكيري دائما. لقد عارضت الحسن الثاني وهو في أوج حكمه، واقتنعت مع حزب المهدي بنبركة وبوعبيد واليازغي واليوسفي بإمكانيات التناوب ترقبا لمرحلة جديدة، وفي هذا الإطار تابعت بحذر قدوم محمد السادس الذي لم أعلن مبايعتي له فعليا كملك إلا حين قام في نونبر 1999 بتنحية إدريس البصري لأنني رأيت فعلا في القرار قطعا مع مغرب الدسائس والرصاص الطائش. ماذا عساي أن أقول حين أرى الأمير يريد إعادتنا إلى ذلك المغرب الأسود، لكن من جهة الفوضى المدمرة هذه المرة، اعتمادا على استعادة «خبيرات» و«تبركيكات» من داخل القصر لا قيمة لها في تاريخ السلالات والممالك، بلغة الاستعلاء وبالنرجسية القاتلة، مسيئا إلى أعراض الناس بمن فيهم والده الأمير مولاي عبد الله الذي لا يذكره المغرب إلا بالحب والخير والإحسان، لكنه يبدو بمداد ابنه كائنا عبثيا لاهيا، مدمنا على الخمر. الأمير لا يسيء للوالد سليل الشرفاء كما يقر بذلك المغاربة، لكنه يسيء أيضا لكل أفراد الأسرة. ماذا عساي أن أقول حين أجد الأمير تائها في أرض الأفكار والمفاهيم والأنساق. مع الملكية وضدها. مع تمجيد الأسرة الصغيرة وإهانتها، مع الحداثة والعتاقة، مع الخليج ونقيضه، ومع الديمقراطية والاستبداد، مع الشفافية والريع، ومع مجتمع الاستحقاق ومجتمع الزبونية. إنني وأنا أعدد هذه المتناقضات أتذكر كل اللقاءات التي جمعتني بالأمير بـ «فيلته» بالرباط، والتي كان يجالسني وهو يتناول دائما يكثر من مشروب «كوكا لايت»، في حين كنت من جهتي أكثر من شرب القهوة. لقد جعلتني تلك اللقاءات أكون فكرة عامة عن شخصيته المهووسة بالملك محمد السادس.. حيث كان الملك حاضرا بيننا ضمن الحديث عن الملكية والمخزن، وعن العالم العربي والإسلامي، وعن الأمريكان واليابان، وكل شيء. وخلال ذلك كان يسعى لجعلنا نفهم بأن الحسن الثاني كان أكثر كفاءة وحنكة من ابنه. لا ننسى أن الأمير في تلك الفترة كان يكثر من خرجاته متهما حاشية الملك بكونها تستهدفه. وكانت تلك اللقاءات مناسبة عبر لي من خلالها كذلك عن كرهه الشديد لشخصيتين من تلك الحاشية (أتحفظ على ذكر اسميهما)، مستبعدا أن تكون تتحرك بدون علم الملك.
أذكر أحيانا أني قلت له: ما دمت تتعرض للمضايقات، فلماذا لا تستقر في أرض أخرى... فأجابني بأنه لا توجد قوة فوق الأرض قادرة على فرض هذا التصور عليه. ماذا عساي أن أقول وأنا أتذكر مرة أنني قلت للأمير: «لما لا تسخر شبكة علاقاتك الخارجية التي تقول إنها واسعة ومتعددة لجلب المنفعة للمغرب، ولتسهيل المأمورية عن ابن عمك؟». فأجابني بهمهمة وفم مفتوح.