عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر بأكادير، صدر كتاب بعنوان «عودة إلى زمن والديّ، مقاربة أنثروبولجية» من تأليف الباحث حسن رشيق (أستاذ الأنتروبولوجيا بجامعة الحسن الثاني) وترجمة الكاتب والباحث عز الدين العلام. يقع الكتاب في 136 صفحة، ويضمّ إضافة إلى التقديم خمسة فصول هي على التوالي: «في الأصْل»، «مسار فقيه»، «مسار امرأة»، «اللقاء» و«في المدينة».
"الوطن الآن"
يقول الكاتب في تقديمه لهذا الإصدار الجديد: «يختلف العمل في هذا المشروع بشكل محسوس عن كلّ مشاريعي الأكاديمية السّابقة. فإذا كنت قد سبق لي أن بذلت مجهودي كي لا أختزل مخاطَبي من فلاّحين ورعاة ونساء مهاجرات وآخرين إلى مجرّد أشياء، فما القول هنا ومخاطَبي هم والديّ؟ إنّي محظوظ كوني أقيم في نفس المدينة التي يقيمان فيها، الدار البيضاء. فغالبا ما كانت محادثاتنا تجري في المنزل الذي كبرت فيه (1960 - 1983)، وغالبا ما كانت تتمّ على هامش زيارات عائلية. نحن هنا أمام ميدان بحث من نوع آخر، وضعية إثنوغرافية غير مسبوقة، شكل آخر من ممارسة الأنثربولوجيا في البيت (at home)». ويضيف متحدّثا عن مسار هذه «العودة» إلى زمن الوالدين: «لم يكن تحرير هذا الكتاب بالأمر الهيّن. فقد توقّفت عن الكتابة مرّات عدّة، وأحيانا لأسباب لا عقلانية. ففي بعض اللحظات، كان يخامرني إحساس حزين، كما لو أنّي كنت أتلقّى كلمات والديّ للمرّة الأخيرة. وقد أعربت عن هذا الإحساس لبعض أصدقائي. والآن، لست بنادم على تلك التّوقفات، ذلك أنّي باجتراري لنفس المواضيع، تمكّنت من معلومات وتفاصيل دالّة، لا يمكن للحوار المنضبط أن يصل إليها إلاّ نادرا. لقد تخلّيت عن أنواع، أو لنقل استراتيجيات، في الكتابة، تبيّن لي أنّها باهتة، وعلى رأسها السّرد البيوغرافي الكرونولوجي الكلاسيكي. كما تخلّيت أيضا عن كلّ رغبة في الاطّلاع على كلّ شيء وحكي كلّ شيء. كما استبعدت تماما أن أجعل من والديّ شخصيات روائية، وأستغل حرّيتي في الكتابة لتزوير حياتهما. فهذا أمر ينمّ بالنسبة لي عن نوع من الافتراء وقلّة الحياء.»...
بعض أهم مقاطع كتاب حسن رشيق
ببلوغه سنّ الرابعة أو الخامسة، بدأ والدي بالتّردد على الكتّاب القرآني (تيمزكيدة). كان يذهب إلى الكتّاب وهو صغير، طيلة سنة بكاملها، حتّى يستأنس بالفضاء الذي ينتظره. لم يكن فقيه الكتّاب شخصا آخر غير عمّه الحسين الذي كان صارما ومزاجيا. وتبرز الحكاية التالية طبيعة شخصيته. فقد جرت العادة أن تُنظّم كلّ سنة نزهة الفقهاء في دائرة القايد الدردوري. وكان الشيوخ الستّة عشر الذين كانوا تحت إمرة القايد يتناوبون على تنظيم النّزهة ورقص أحواش، كلّ في قريته. وكانت النّزهة تضمّ ما بين 400 و500 فقيه. هكذا، وفي الهواء الطّلق، وسط البساتين، كان الفقهاء يتلون القرآن ويتنزّهون. وكان المقدّم يباشر «التّفريق» طالبا من كلّ فقيه أن يتلو حزبا معيّنا. والهدف من التّفريق هو جعل مجموعة من الفقهاء يقرؤون في الآن نفسه الأحزاب السّتين التي يتضمنّها القرآن. وخلال إحدى النّزهات، طلب المقدّم من فقيهنا الذي أكمل بالكاد حفظ القرآن، أن يتلو حزب «ألف لام ميم صاد». كان الأمر فعلا امتحانا عسيرا لم يتوفّق فيه. وتمّ توبيخه من طرف جدّي الذي كان على علم بعجزه على استظهار هذا الحزب عن ظهر قلب. مكسور الجناح، غادر فقيهنا النّزهة والقرية والمنطقة، وسافر بعيدا إلى حدود بلد الولي عبد السلام بن مشيش في شمال البلاد، وهي منطقة معروفة بحفظ القرآن. وظلّ هناك حوالي السّنة، رفقة فقهاء يقرؤون القرآن يوميا. ولم يعد من حيث ذهب إلاّ بعد أن أحكم حفظه للقرآن. وبذلك، رفع التّحدي، وتمّت تسميته مدرّسا في كتّاب القرية.
اقترنت طفولة والدي ومراهقته إلى حدّ كبير بحفظ القرآن. ولا يزال يتذكّر إلى اليوم المراحل الكبرى لهذا التعليم التّقليدي. فالمرحلة الأولى، وهي مرحلة الهجاء (تسمّى إد ليف)، تدوم ستّة أشهر تقريبا. ويكمن هدفها في جعل التلميذ يتعرّف على أبجدية اللغة العربية، حيث تُكتب له حروف الهجاء منفصلة بعضها عن بعض. وخلال المرحلة الثانية (تسمّى إد لام) يتعلّم التلميذ كيف يتعرّف على الحروف التي تكوّن كلمة ما. فعلى سبيل المثال، لو أخذنا كلمة «الحمد»، ينبغي التّعرف على الحروف الخمسة التي تكوّن الكلمة، وهي الألف واللام والحاء والميم والدال. وهذه المرحلة تعتبر حاسمة، ذلك أنّ شكل الحرف العربي يتغيّر حسب موقعه في الكلمة. أمّا المرحلة الثالثة، (تسمّى إد وانصب) وهي مخصّصة لما يُعرف في اللغة العربية بـ «الشّكل»، حيث كان على التلميذ أن يتعرّف، ليس فقط على الحروف، ولكن أيضا على أدوات الحركة. فكي يقرأ التّلميذ «الحمد»، كان عليه أن يتهجّى الكلمة بذكره للحرف وحركته: الألف منصوبة، واللام ساكنة، والحاء منصوبة، والميم ساكنة، والدال مرفوعة. (الليف أنصب، أل ألزم، حا أنصب، ميم ألزم، دو أرفع). نجح الوالد في أقل من سنة في اجتياز هذه المحطّات الثلاث الأولية.
وفي المرحلة الموالية، اكتشف والدي أسرار الكتابة. ويُطلق على هذه المرحلة اسم لا يخلو من دلالة، وهو التّحنيش الذي يحيل المتعلّم على الشّكل الملتوي للحروف العربية. كانت تقنية تعليم الكتابة مدهشة. فالفقيه يستعمل سويقة ريشته القصبية، وينقش بشكل من الأشكال حروفا على لوحة خشبية مدهونة بمادة رمادية فاتحة تُسمّى الصلصال أو الصّنصار، تسهّل الكتابة وتجعلها واضحة. ولا يكون على التلميذ سوى أن يستنسخ بالسمق كتابة الكلمات التي نقشها الفقيه. هكذا بدأ والدي بكتابة سورة الفاتحة، ثمّ السور الثلاث الأخيرة من القرآن. وفي المرحلة الخامسة (تسمّى فوق السّطر) يتعلّم التلميذ كيف يستنسخ المكتوب. فالفقيه يكتب على اللوحة آيات قرآنية، وعند نهاية كلّ سطر كتبه يترك سطرا فارغا حتّى يتمكّن التلميذ من إعادة كتابة نفس الآيات التي كتبها الفقيه.
تمكّن والدي خلال سنة ونصف من اجتياز هذه المراحل الخمسة. وهنا تبدأ المرحلة الحاسمة، وهي تلك التي تجعل من التّلميذ فقيها، أي متعلّما قادرا على استظهار القرآن عن ظهر قلب. لم يكن تعلّم القراءة والكتابة إذن سوى مراحل تمهيدية للحفظ. ولم يعد التلميذ ينسخ ما يجب عليه حفظه. فمن الآن فصاعدا، عليه أن يكتب في لوحته ما يمليه عليه معلّمه. كما يمكنه أن يطلب منه أحيانا، عند الضرورة، تدقيقات تهمّ ضبط كتابة الكلمات، حذفا أو إثباتا.
لم يكن عدد التلاميذ يتجاوز الثلاثين، وكان ثلث هذا العدد غرباء عن القرية. والواقع أنّه فيما وراء الثلاثين، كان التّدريس يصبح مستحيلا. علينا أن نتصوّر كيف كان الفقيه المدرّس يشتغل، وفي ظلّ أية شروط. فالتدريس كان يتمّ بشكل جماعي، ولكن بإيقاعات فردية. لم يكن للتلاميذ نفس العمر، ولا كانوا على نفس المستوى من تعلّم القرآن. وبالتالي، كان على الفقيه أن يُساير كل تلميذ على حدة. كان التلاميذ المتحلّقون حول الفقيه يذكّرونه، واحدا واحدا، بآخر آية تمّت كتابتها، وكان بدوره يملي على كلّ واحد التّتمة لينتقل إلى غيره، وهكذا على التوالي. وقد تستغرق العملية مدّة طويلة بالنسبة لأولئك الذين يكون عليهم حفظ وحدات أطول. يا لها من ذاكرة خارقة، فدونما تركيز شديد، كان على الفقيه أن ينتقل بسرعة، على سبيل المثال، من السورة الأربعين إلى السورة الحادية عشر، ثمّ إلى الثانية... أمّا فيما لو تلعثم أو أخطأ، فبسرعة ينكشف أمره. لقد كانت بيداغوجيا تأخذ بعين الاعتبار، وبقوّة الأشياء، الفوارق الموجودة بين التلاميذ.
كان الوالد يحفظ يوميا ثلاث آيات. وكان له يوما بالكامل ليفعل ذلك. ففي كلّ صباح، كان عليه أن يستظهر أمام الفقيه ما تمّ حفظه من آيات، ثمّ يمحي الجزء الذي تمّ حفظه من اللوحة، ليبدأ في الغد حفظ الجزء الموالي المكتوب البارحة على ظهر اللوحة. وعند كلّ محو، كان المعلّم يملي الآيات الجديدة التي يتعيّن حفظها بعد الغد. وفي كلّ مرّة، كان المعلّم يطلب من التّلميذ أن يستظهر أيضا ما تمّ محوه البارحة (غر تمحايت). أمّا الهدف، فكان هو الوصول إلى وحدة حفظ تتكوّن من عشرة أسطر، وتُسمّى «تخروبت»، وهو ما يعادل نصف ثُمن الحزب. وعلى خلاف «تخروبت» التي تُعتبر وحدة قياس محلّية، فإنّ ثُمن الحزب، كما هو ربعه أو نصفه، يمكن تحديده في القرآن. والجدير بالذكر أنّ «تخروبت» تعني في بعض مناطق الجنوب سُدس عشر يوم من دورة استغلال الماء.
ويا ويل الكسالى أمام قسوة الفقيه التي يُضرب بها المثل. فحتّى ابنه محمد الذي أصبح فقيها، ثمّ مدرّسا بتارودانت، لن ينجو من عقابه. فالعصا الطويلة المصنوعة من عروش شجرة الزيتون أو الرمّان لا تفارق يده. وكلّ التلاميذ المتّكئين على حائط الغرفة الصّغيرة، كانوا في متناوله بفضل تلك العصا اللعينة. وحدث ذات مرّة أن ضرب الفقيه والدي على وجهه ضربا مبرحا، ممّا أثار غضب جدّي الذي أنذر أخاه الفقيه أن لا يعود لمثل هذه الفعلة ثانية. لم يكن جدّي، وهو المتحمّس لبيداغوجيا ليّنة، ليضرب تلاميذه. وكان ذاك نهجه أيضا مع أبنائه، وهو ما أكّده والدي الذي لم يتعرّض يوما للضرب من طرف والده. كان على التلميذ أن يحفظ القرآن تدريجيا. وإذا ما علمنا أنّ أدنى وحدة لاجتياز أوّل استظهار، هي سدس عشر الحزب، فذاك يعني أنّه كان على أفضل تلميذ أن يمحو لوحته 960 مرّة، أي ما يعادل تقريبا ثلاث سنوات من الدّراسة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أيّام العطل الأسبوعية (مائة يوم في السنة)، وباقي العطل (ستّون يوما)، فإنّ المدّة ستصل إلى خمس سنوات على الأقل. والمشكل هنا، كما هو واضح، لا يكمن في الاستظهار اليومي بقدر ما يكمن في القدرة على استذكار كل ما تراكم من حفظ.