محمد عزيز البازي: دفاعا عن مقترح قانون هيئة الدكاترة الموظفين

محمد عزيز البازي: دفاعا عن مقترح قانون هيئة الدكاترة الموظفين د/محمد عزيز البازي
إن استقراء أقوال ومواقف مختلف المسؤولين حيال ملف دكاترتنا العاملين في أسلاك الوظيفة العمومية، منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، ليشكل مادة دسمة هامة من أجل إنجاز مسلسل روائي مأساوي وكوميدي من العيار الرفيع والوزن الثقيل، حتى يتم تحسيس الرأي العام الوطني، على نطاق واسع، بخطورة الواقع المرير وحالنا الرديء ومآلنا الوبيء، حيث يمس مصير البلاد والعباد أجمعين. إنه ملف حقوقي وعلمي ومصيري، وطني بامتياز لأهميته الكبرى وأولويته القصوى، يقتضي من كل القوى الحية للوطن الدفاع عنه من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل الذي عمر طويلا في عرقلة هذا الملف، وإقباره بمختلف الذرائع والأوهام والألغام.
 
إن الرفض المتوالي للحكومة المغربية السابقة لمقترحيْ قانون دكاترتنا: "مقترح قانون رقم 14-45-5 القاضي بإحداث النظام الأساسي الخاص بهيئة الدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة"، و"مقترح قانون يقضي بتتميم الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية"، كشف في شخص وزيرها المنتدب المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، عن ترهات براهينه وبلادة صائغيها وجبن مهندسيها وغباء منفذيها ومناورة لوبييها وجهل محتكميها. كما يؤكد بدامغ البرهان مدى هيمنة الحكومة على الإنتاج التشريعي، الذي وصف رئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب، حصيلته بالمحتشمة في الولاية التشريعية المنتهية لحكومة ابن كيران، إذ تمت المصادقة على ما يزيد على 360 مشاريع قوانين مقابل 21 مقترح قانون من أصل 241 مقترحات قوانين، ضمنها مقترحنا الذي لم يكلف الحكومة والبرلمان سنتيما واحدا.
رفض يستبطن خوف المتواكلين وعجز الدهاقين وفقد الفاشلين وطغيان المفسدين المستبدين الذين يتبوأون مقعدهم من اللظى لا محالة، بمساهمتهم الكبرى في كتم وإخراس أصوات دكاترتنا، وهدر ثرواتهم القيمة المتنوعة الشاملة لمختلف مناحي العلم والمعرفة.
رفض كان ينبغي لمهندسيه أن يستحيوا من صنيعه، لأنهم تمكنوا من كسب نظامهم الأساسي وفق ما يحلو لهم دون أدنى اعتراض يذكر، وتسوية وضعيتهم بامتياز على كافة الأصعدة والمستويات، حتى تجاوز بكثير الوضع الإداري والمهني والمادي والاعتباري للدكاترة الذين يفوقونهم شهادة وتحصيلا ودراسة وتأهيلا وكفاءة وتأليفا وخبرة وعلما ومعرفة، وذلك بدعم وعون من نظرائهم المهندسين الذين تمكنوا من تقلد مناصب نافذة، كالمستشار الملكي الراحل عبد العزيز بلفقيه: مهندس الطرق والقناطر ورئيس لجنة إصلاح قطاع التربية والتكوين والرئيس المنتدب للمجلس العلمي الأعلى، بينما فئة دكاترتنا لم تجد في صفوفها من حظي بمثل هذه المناصب في دواليب الدولة، حتى يدافع عنهم وينصفهم ويسترد لهم حقوقهم ويحصنهم بنظام أساسي خاص كفيل بتسوية وضعيتهم وحمايتها من أي خرق وتهجين وهدر وإذلال وتهميش وتبخيس وتعطيل وتضليل. وإن وجد أحدهم في مراتبها السامية، فهو يغرد خارج السرب بمجرد ولوجه سبيلها كجميلة المصلي الوزيرة المنتدبة لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر.
كم هي الأحداث والوقائع التاريخية تعيد نفسها بشكل أو بآخر في سياقات مختلفة؛ فمنذ ما يربو على قرن من الزمان، عادت بعثات طلابية وطنية إلى المغرب أطرا ذات كفاءة وخبرة في مجال الهندسة بمختلف مشاربها وغيرها، بعد تكوينها في العديد من الدول الغربية على عهد السلطان الحسن الأول، إلا أنها قوبلت بكثير من الازدراء والتهميش والتبخيس، خاصة من أصحاب النفوذ الذين خافوا على أنفسهم من انجراف البساط تحت أقدامهم بقدوم هؤلاء المهندسين الذين يعلونهم علما وخبرة وكفاءة ومرتبة ذات دور بليغ وأهمية كبيرة في النهوض بالبلاد إلى المستوى المنشود. واليوم يتحسس المهندسون الخوف نفسه الذي كان عند غيرهم من أصحاب الصولة والصولجان، دون أن يعوا أن هذا التخوف هو الذي جنى على أسلافهم وبلادنا أكبر الجنايات وأبهظ الضرائب من تخلف وأمية وهشاشة وغيرها في مختلف البنيات، الأمر الذي حال دون لحاق المغرب بصفوف الدول المتقدمة، منذ عودة تلكم البعثات الطلابية زهاء قرن ونصف إلى يومنا هذا، وكأن التاريخ لم يتغير، إذ انتهى إلى علمنا من دوائر عليمة خبر تهيبهم من فئة دكاترتنا، الذي أرخى بظلاله على رفض مقترحيهم المذكورين.
كل هذا وذاك يحمل أكثر من مسوغ ومبرر ودليل للاستناد إلى الفصل الخامس والتسعين من الدستور المغربي الجديد الذي يخول للملك طلب قراءة جديدة لكل مشروع أو مقترح قانون من مجلسي النواب والمستشارين.
واهم وخسيس وفاسد من يعتقد أن دكاترتنا سيسيطرون على زمام الأمور حالما تتم المصادقة على مقترحيهم السابق ذكرهما.
واضح إذن أن هذا الاعتقاد ينم عن فئة من الجاهلين المستبدين الذين يخافون على مصالحهم الذاتية كي يعيثوا في الأرض كيفما حلا لهم، لأن من يهاب العلم والمعرفة لن يكون إلا من الجاهلين والحاسدين والمستبدين ذوي النظرة الأحادية الجانب التي ترى لونين لا ثالث لهما: هما الأسود والأبيض، الذين تأخروا عن الركب، وفاتهم القطار الحقيقي للتنمية والتقدم والرقي الذي لا يسير إلا بطاقة البحث العلمي والابتكار في مختلف مشارب العلم والمعرفة، أولئك الذين يريدون أن يقتاتوا ويغتنوا على هشاشة وتخلف البلاد والعباد، مستغلين أسباب التضليل والتوهيم، دون أن يستفيدوا من عبر ماضيهم وأسلافهم المهندسين الذين كانوا بدورهم ضحية هذا الاعتقاد الذي أخر المغرب ما يفوق قرنا من الزمان، واليوم يرومون الانتقام، سواء عن وعي أو لاوعي، لأسلافهم وأنفسهم بتأخير البلاد ضعف هذا الزمان!!!
-واهم من يعتقد إصلاح قطاع التعليم والإدارة بمعزل عن تسوية وضعية دكاترته العاملين بأسلاك الوظيفة العمومية.
-واهم من يعتقد تشخيص داء وعطب قطاع التعليم والإدارة دون الإلمام الدقيق بوضعيتهم في بعديها الأفقي والعمودي، والفهم العميق لمقترحيْهم القانونيين.
-واهم من يعتقد إصلاح هذين القطاعين اللذين يشكلان العمود الفقري للمجتمع والدولة، وفق مختلف الاستراتيجيات والمناهج والبرامج والنظريات والمقاربات، دون تفعيل مقترحي دكاترتنا العادلين الناجعين، لأنه ما جدوى إصلاحهما وبقاء وضعية دكاترتهما بصفتهم أعلى رأسمالهما وأنضج ثمراتهما، الأكمل دراسة وخبرة وبحثا وتحصيلا، عرضة للضياع والهدر والتبخيس والتهميش...؟
-ما جدوى الذين يصلحون جذور التعليم والإدارة، ويهدرون بأنفسهم أنضج ثمارها وأهم محاصيل فصولها ومراحلها، المتوجة بأعلى شهادة أكاديمية وطنية ودولية، وهي الدكتوراه بنوعيها دكتوراه الدولة والدكتوراه الوطنية، وذلك بامتناعهم عن التصويت على مقترحَيْ هيئة دكاترتنا الموظفين التي هي ثروتنا العلمية الأكاديمية الأغلى ورأسمالنا البشري الأعلى؟
والجدير بالذكر، أنه لا يمكن معرفة ما يحاك لقطاع التعليم والإدارة على حد سواء، بدءا من التعليم الأولي والابتدائي، مرورا بالإعدادي والثانوي التأهيلي، وصولا إلى الجامعي، دون معرفة ما يحاك ضد صفوة خريجيه من الدكاترة الموظفين في ظل وضعيتهم الهشة المزمنة التي تلازمهم، حيث تكشف بشكل ملموس هدر وضحالة التعليم بجميع مراحله وأسلاكه، كما تترجم على أرض الواقع تصنيفه في مراتب متأخرة إقليميا ودوليا، قبل أية تصنيفات قارية وعالمية. إنها قضية جدلية بين القاعدة والقمة التي أسفرت عن نتيجة هذه الوضعية التي هي من تحصيل الحاصل، وأمثل دليل على ما يجري ويحاك لمسار تعليمنا وإداراتنا بصفة عامة، الذي هو في الآن عينه مصير الوطن وأبنائه.
إن البقاء على رفض الملف المطلبي لدكاترتنا، والاستمرار في إرجاء حله برهنه مرارا وتكرارا بمراجعة شمولية للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، حسبما ادعاه محمد سعد العلمي الوزير المنتدب المكلف بتحديث القطاعات العامة في حكومة عباس الفاسي، واقتفى سبيله نظيره الحركي محمد مبديع المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، ومثيله الاشتراكي الوزير محمد بنعبد القادر، هو تضليل وتسويف عقيم، وتوهيم خطير، وفشل ذريع لأي إصلاح يرام تحقيقه في هياكل الدولة ومرافقها العمومية والخاصة، لأن هذه المراجعة ينبغي أن يحدد زمنها وبرنامجها ويعقبها تنفيذ لنتائجها، لا أن تبقى صورية مطلقة إلى وقتنا الراهن، لا يحدها زمان ومكان، ومطية العاجزين عن الإصلاح والتحديث الفعليين للشأن العام. أيعقل أنه كلما يتطرق مسؤول عن هذا القطاع لموضوع إصلاح الوظيفة العمومية إلا ويعد بالمراجعة الشمولية للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية دون أي حصاد هام يذكر، رغم إنفاق الأموال الطائلة والجهود الجمة المبذولة لإنجاز مسودته، بل نجد مستوزرنا المنتدب محمد مبديع المكلف بقطاع الوظيفة العمومية يسوفنا بهذه المراجعة مرات عديدة، بينما نجد في برنامج عمله 2014-2016 الذي عرضه بتاريخ 26 مارس 2014 في إطار الإجراءات المتعلقة بالمراجعة المذكورة المنوطة بالرأسمال البشري، مجرد: "إعداد أرضية مشروع مراجعة شاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية وعرضها على شبكة مديري الموارد البشرية والمجلس الأعلى للوظيفة العمومية" و"إعداد مشروع القانون وعرضه على الشركاء الاجتماعيين والمجلس الأعلى للوظيفة العمومية"!!!
لقد تبين بالدامغ والملموس تيار مضاد معاد لهذه الفئة سواء في وضعية دكاترتنا التي بسطنا خطوطها العريضة في كتابنا: وضعية الدكاترة في أسلاك الوظيفة العمومية ومعضلة إصلاح التعليم والإدارة بالمغرب، أو في مسار مقترحي دكاترتنا الموظفين منذ تقديمهما للبرلمان إلى حدود الآن؛ ففي الوقت الذي كنا ننتظر أن يحال "مقترح قانون يقضي بتتميم الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية" للمناقشة العامة نهاية الولاية التشريعية (2011-2016)، نفاجأ مرة أخرى بإضافة حلقات جديدة لمسلسل الرفض الحكومي لمقترحي قانون دكاترتنا، استهلت بتقديم إدريس الضحاك الأمين العام للحكومة للسيدات والسادة الوزراء، مشروع مرسوم رقم 770-15-2 بتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية، بتاريخ 31 مايو 2016، موقع من طرف الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، لعرضه على مجلس الحكومة الذي صادق عليه بالإجماع يوم 9 غشت 2016، حيث وقعه كل من رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ووزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد والوزير المنتدب المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة محمد مبديع؛ بعد أن تم التشهير به والترويج له كالإعلام بأن أجور الخبراء قد تصل إلى 50 ألف درهم شهريا؛ وهو مرسوم يهدف إلى تعاقد الإدارات العمومية عند اقتضاء مصلحتها مع صنفين من المتعاقدين، عن طريق فتح باب الترشيح، بناء على قرار رئيس الإدارة المعنية، حدد له 4 مناصب لكل قطاع بالنسبة للخبراء، ومدة لا تتجاوز 4 سنوات، مع أجر جزافي شهري لكل هذين الصنفين، وهما: "خبراء لإنجاز مشاريع أو دراسات أو تقديم استشارات أو خبرات أو القيام بمهام محددة، يتعذر القيام بها من قبل الإدارة بإمكاناتها الذاتية؛ و أعوانا للقيام بوظائف ذات طابع مؤقت أو عرضي"، مع إيراد بعض الاستثناءات المرهونة بترخيص من رئيس الحكومة فيما يتعلق بعدد المتعاقدين ومدة العمل والمؤهلات المتوفرة وطبيعة المهام المسندة.
والهجين المغرض في هذا المرسوم هو إقحام فئة الخبراء مع الأعوان الذين من أجلهم تم تنزيل نصه الذي أحال النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على تنظيمه في فصله السادس المكرر كما يلي:
"يمكن للإدارات العمومية عند الاقتضاء أن تشغل أعوانا بموجب عقود، وفق الشروط والكيفيات المحددة بموجب مرسوم".
لقد كان لزاما وقانونا أن يحيل النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على هذه الفئة من الخبراء مثلما فعل مع نظرائهم الأعوان حتى يحل إدراج هذا الصنف من المتعاقدين بمرسوم، خاصة وأن نص المرسوم أقام تمييزا بين الخبراء والأعوان، وفي هذا ما يعزز ويؤيد القول: بغياب الاختصاص في تحرير هذا النص التنظيمي، الأمر الذي أوقع المشرع التنظيمي في مزالق سيمانطيقية أعاقت الضبط الابستمولوجي للمفاهيم، حسب ما أعرب عنه الباحث عثمان التاوتي في مقاله: "التعاقد في الإدارات العمومية".
وثالث الأثافي أن هذا الخرق الفادح لم يلتفت إليه العقل المدبر للقوانين الأمين العام للحكومة إدريس الضحاك، سواء في نص المشروع المتعلق بهذا المرسوم الذي قدمه للسيدات والسادة الوزراء بتاريخ 31 ماي 2016، أو في نسخته المصادق عليها يوم تاسع غشت من السنة نفسها، رغم أنه الطرف الموكول إليه فحص وتمحيص وتدقيق وضبط النصوص القانونية قبل نشرها في الجريدة الرسمية، إذ طالما اشتكى من الهنات التي تشوب مجموعة منها!!!
درءً لأي ضجيج أو عويل، مرر هذا المرسوم في عز العطلة الصيفية الإدارية للعمال والموظفين دون استشارة المجلس الأعلى للوظيفة العمومية والنقابات، أو الأخذ بعين الاعتبار انتقاداتها المتكررة لهذا المرسوم في تكريس الزبونية والمحسوبية والمتاجرة بالوظيفة العمومية والإجهاز على الصندوق المغربي للتعاقد لصالح صناديق أخرى، وتعميق البطالة خاصة بين حاملي الشهادات العليا التي فشلت الحكومة في تدبير شأنها فشلا ذريعا، وكذا خلق مزيد من التفرقة والتنافر بين الموظفين بإحداث فئتين من الأجراء المرسمين والمؤقتين، كما اغْتُنِمَ الظرف الزمني نفسه بعد مضي زهاء عام على المرسوم المذكور لتمرير بشأنه القرارات التالية بالجريدة الرسمية:
-"قرار لرئيس الحكومة رقم 3.95.17 صادر في 11 من ذي القعدة 1438 (4 أغسطس 2017) بتحديد مقادير الأجور الجزافية الشهرية ومقادير التعويضات عن التنقل المخولة للخبراء والأعوان، الذين يتم تشغيلهم بموجب عقود بالإدارات العمومية".
-"قرار مشترك لوزير الاقتصاد والمالية والوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية رقم 1761.17 صادر في 15 من شوال 1438 (10 يوليو 2017 بتحديد نموذجي عقد تشغيل الخبراء والأعوان بالإدارات العمومية".
-"قرار للوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية رقم 1394.17 صادر في 14 من رمضان 1438 (9 يونيو 2017) بتحديد شروط وكيفيات تنظيم وإجراء مباراة تشغيل الأعوان بموجب عقود بالإدارات العمومية".
رغم ما للانتقادات المذكورة من أهمية ووجاهة، إلا أن ما لم تنتبه إليه نقاباتها وغيرها من الآراء الناقدة لهذا المرسوم يكمن في بيت قصيده الذي يروم بالأساس إلى الاستغناء عن مقترح قانون دكاترتنا الأخير، وإبطال دعائمه ونسف أركانه ووأد مراميه التنويرية الواعدة التي ترنو إلى تشييد أسس التقدم والتنمية المستدامة الهادفة والفعالة والإقلاع البنيوي الحضاري، وملء فراغ صارخ وخطير في الإدارات المغربية التي تلجأ بصورة مطردة، على سبيل المثال إلى هدر الكثير من الأموال لفائدة مختلف مكاتب الدراسات الأجنبية لإنجاز بحوث ودراسات واستشارات دون جدوى، وذلك عبر تجسير مجال البحث العلمي بين مختلف القطاعات الإدارية والتعليمية والمهنية بفضل استثمار ما تزخر به من ثروات وكفاءات ومؤهلات موظفيها الدكاترة العلمية والمعرفية والمهنية والمنهجية في البحث والدراسة والنقد والتحليل والتقييم لمختلف القضايا والإشكالات والمشاريع المقترحة الآنية والمستقبلية، والتنسيق والتعاون فيما بينها عبر تبادل التجارب والخبرات والاستشارات وغيرها، للرقي بكل قطاع إلى المستوى المنشود.
وعليه، آثر متحكمونا بداية الأمر توزيع 4 مناصب على كل قطاع للتعاقد مع خبراء مدة 4 سنوات قصد "إنجاز مشاريع أو دراسات أو تقديم استشارات أو خبرات أو القيام بمهام محددة، يتعذر القيام بها من قبل الإدارة بإمكاناتها الذاتية"، حسب ما ينص عليه مرسوم التعاقد، حتى يتم سد الباب في وجه كل من يعيب عليها هدر الأموال لصالح مكاتب الدراسات الأجنبية على سبيل المثال، التي كانت تقوم بهذا الصنيع، والاكتفاء بهؤلاء الخبراء حسب المقاس لتسديد حاجياتها الخاصة المطلوبة دون غيرهم، والبرهنة على أن للإدارة فرصا ومنابر للبحث والدراسة والاستشارة وغيرها، تمنحها لمن أراد المشاركة في تباريها التعاقدي من الكفاءات العليا لنيلها وفق مقترحها ومراميها وشروطها، لإفحام كل من يسائلها في أمر كفاءاتنا المهدورة، مثلما فعلته عندما أرادت الاستغناء عن توظيف حاملي الدكاترة في منابر البحث العلمي والأكاديمي بإحداث مباريات أساتذة التعليم العالي مساعدين وفق الخصاص المطلوب، وهو السبيل الذي لا يزال مسؤولوها يستندون إليه عندما يتم مساءلتهم حول الوضعية الشاذة المزرية لدكاترتنا.
هكذا تم تقنين التحكم في مجال البحث العلمي والتكوين والتعليم والتدبير والتسيير بصفة عامة، ومحاولة إقبار قضيتنا العلمية الوطنية والحضارية بصفة خاصة، التي تبلورت في مقترح قانون دكاترتنا الأول والثاني، و إلا:
-كيف يحل تبرير هذا التعاقد بعلة أن "إنجاز مشاريع أو دراسات أو تقديم استشارات أو خبرات أو القيام بمهام محددة، يتعذر القيام بها من قبل الإدارة بإمكاناتها الذاتية"، حسب ما ورد في مرسوم التعاقد، والإدارات المغربية لم تستطع حتى الآن إحصاء ومعرفة كفاءاتها العليا في مختلف التخصصات والخبرات، بعد مرور أكثر من عشر سنوات على إعلانها المتعلق بإعداد الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات بمختلف الوزارات والإدارات العمومية، وإحداث لجنة مشتركة بين الوزارات، تحت الرئاسة الفعلية لوزير تحديث القطاعات العامة، مكلفة بالإشراف على عملية إنجازها!!! ؟
-كيف يصوغ إصدار هذا المرسوم والإدارات المغربية تعج بالكفاءات العليا من مستوى أعلى في شتى التخصصات، مهضومة الحقوق والواجبات، مهدورة النتائج والخبرات والتجارب والمعارف والعلوم ؟؟!
-كيف يخول لرئيس الإدارة سلطات واسعة في هذا التعاقد دون تحديد المواصفات التي ينبغي توفرها في شخصه، إلى درجة أن المرسوم منحه انتقاء الأشخاص المتوخى تشغيلهم خبراء في مؤسسته عند تعذر تلقي أي ترشيح أو عدم توفر الشروط المطلوبة في الترشيحات المقدمة، وكذا حق إبطال عقد التشغيل خلال سريانه، مقابل استفادة المتعاقد من تعويض محدد في أجرة شهر واحد فقط، شريطة أن يكون قد أتم عاما كاملا من الخدمة بالإدارة المعنية !!! بغض النظر عن السلطات التي منحها له سابقا الفصل 15 من قانون الوظيفة العمومية، الرامية إلى تكبيل النشاط العلمي والأدبي والفني والبدني لموظفينا، وتعميق تبعيتهم لرئيس إدارتهم.
-ألا يعد هذا الصنيع من قبيل الاستهتار وتحقيرا للكفاءات الأكاديمية العليا للبلاد وهدرا مريعا للرأسمال البشري الوطني في أسمى نماذجه: دكاترتنا الموظفون وغير الموظفين ؟؟!
-ألا يترجم هذا المرسوم الإرادة السياسية الرسمية للحكومة المغربية في تحديدها ميزانية ومكانة البحث العلمي في أدنى المستويات والدرجات ؟؟!
-ألا يعد هذا إرهابا وترهيبا معكوسا في الآن عينه ؟؟!
-أي أمن نبتغيه، وعن أي أمن نتحدث في مختلف المحافل والمواقع، إذا كان على حساب عمر ومعاش وكرامة وحقوق وواجبات وثروة أسمى رأسمال بشري نمتلكه ؟؟!
لقد انتهجت مختلف الأساليب والطرق لإقبار حقوق وواجبات هذه الفئة، خاصة مقترحَيْ قانونها الأول والثاني، كان أبرز سيناريوهاتها المناورات الكوميدية والمأساوية في متم ولاية ابن كيران وتصريف أعمالها:
-صدور هذا المرسوم المشؤوم السابق الذكر، وقت انتظار الفرصة الأخيرة لتقديم مقترح قانون دكاترتنا "يقضي بتتميم الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية"، للمناقشة العامة بمجلس البرلمان، حيث لم يتم إجراؤها في ولاية حكومة ابن كيران وسعد الدين العثماني على حد سواء.
-قدوم وزير التعليم العالي والبحت العلمي وتكوين الأطر الحسين الداودي على إجراء مفاوضات مع وزارة الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد، بغية تحديد تعويضات للدكاترة المعطلين للتدريس بالجامعات وفق تعاقدات، بعدما نجحا في إبرام قرار تعاقدي مشترك يمنح الطلبة المسجلين في السنة الثانية فما فوق بسلك الدكتوراه، فرص التدريس بالجامعة المغربية مدة 15 ساعة أسبوعيا.
-تجميد ما تبقى من مقترحات القوانين، ضمنها مقترح دكاترتنا السابق الذكر، بحجج: التأخر في العمل الحكومي لأسباب سياسية حزبية غير موضوعية؛ وحلول العطلة الصيفية الذي تزامن مع نهاية الولاية التشريعية الأولى؛ وتحديد ما تبقى من وقت لتنزيل باقي القوانين التنظيمية التي ينص الدستور على إخراجها في هذه الولاية الموالية لصدور أمر تنفيذ دستور 2011 بناء على فصله: 86، علما أن الفصل 82 حث على تخصيص: "يوم واحد على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين، ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة".
-تنزيل بعض هذه القوانين التنظيمية كقانون التقاعد الذي زاد من استفحال وتأزيم وضعية فئة موظفينا الدكاترة الذين تراوح ولوجهم إلى الوظيفة العمومية بين سن الثلاثين والأربعين.
-تقليص عدد المناصب الممنوحة إلى وزارة التعليم العالي وتكوين الأطر إلى 400 منصب مالي في مشروع قانون المالية لسنة 2017 دون الإعلان عن أي تحويل للمناصب المالية، وهو عدد زهيد مقارنة مع الخصاص المتنامي المهول في عدد الأساتذة الباحثين والازدياد المطرد للطلبة الجامعيين.
المناصب المالية الشاغرة جراء إحالة أصحابها الموظفين على التقاعد وفق ما ورد بالمادة 22 من الباب الثاني الخاص بالأحكام المتعلقة بتكاليف الميزانية العامة الواردة بمشروع قانون المالية السابق الذكر.
-عزم وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر الحسين الداودي رفع سن التقاعد إلى 71 سنة عوض 65 سنة، بتنسيق مع النقابة الوطنية للتعليم العالي، لسد الخصاص الكبير المطرد في أطر التدريس التي منها: 4500 أستاذ جامعي مقبل على التقاعد سنة 2018 حسب توقع الوزارة الوصية والنقابة المذكورة سنة 2016.
-مساندة محمد مدون الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي لهذا القرار الذي قال في شأنه لصحيفة "المجلة 24" الإلكترونية: "إن هذا القرار سيساعد على الحفاظ على مئات الأساتذة النشيطين، وسيمكن من معالجة النقص المتوقع في التعليم"، دون أدنى التفات إلى دكاترة أسلاك الوظيفة العمومية.
-زعم الكاتب العام المذكور أن تحويل دكاترتنا من المؤسسات العمومية إلى الجامعات ليس بحل لمشكل الخصاص في أطر التدريس بالجامعات المغربية، لكون نسبة الدكاترة المحولين يتجاوز سنهم الستين سنة، ما يعني قضاء أغلبهم 5 أو 6 سنة للحصول على تقاعدهم، حسب ادعائه المتهافت المخجل الذي يفتقد إلى أي دليل أو مبرر.
-توهيم جميلة المصلي الوزيرة المنتدبة لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، الرأي العام بجهود الحكومة التي اعتبرتها استثنائية فيما يناط بتوفير المناصب المالية الخاصة بأساتذة التعليم العالي المساعدين: إحداث 2100 منصب مالي بين السنتين 2012-2016، وتحويل 1280 منصب مالي للموظفين الدكاترة إلى الجامعات المغربية، علما أن هذه المناصب تندرج في معادلة ناقص واحد زائد واحد، وإلا كيف نعتبر هذا الصنيع استثنائيا ونحن نعرف أن عددا وافرا من الأساتذة الباحثين يتقاعدون كل عام، إذ توقع كل من محمد مدون رئيس النقابة الوطنية للتعليم العالي ولحسن الداودي وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، وصول عددهم إلى إلى 4500 أستاذ سنة 2018، فضلا عما يعانيه هذا القطاع كل عام، من خصاص مهول في التأطير الذي يظل عندنا بعيدا كل البعد عن معياره العلمي المتعارف عليه دوليا: أستاذ لكل 20 أو 25 طالب/ة. لقد كان على الوزيرة المنتدبة استحضار عدد الأساتذة الباحثين المحالين على التقاعد كل عام حتى يتبين الفرق بين النقص والزيادة وتبرهن لنا عن هذا الاستثناء المزعوم.
-ادعاء الوزيرة المنتدبة جميلة المصلي الباطل في قولها بإقدام الحكومة على برمجة 1500 منصب لفائدة الدكاترة في ميزانية 2016-2017، أثناء ردها بمجلس المستشارين يوم 26 يوليوز 2016 على سؤال شفوي حول ملاءمة شواهد الدكتوراه مع سوق الشغل، علما أن مشروع قانون المالية لسنة 2017 لم يخول لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر سوى 400 منصب مالي، ناهيك أنه الأسوء مقارنة بالقوانين المالية للولاية الحكومية الكيرانية؛ إذ تم حذف المناصب المالية الشاغرة للموظفين المحالين على التقاعد دون الإشارة إلى أي تحويل للمناصب المالية، فضلا عن تقليص المناصب المالية بالميزانية العامة لسنة 2017 إلى 23.718 منصب مالي بعدما كانت في سنة 2016: 25.948 منصب.
-اتجاه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر إلى توظيف أساتذة جامعيين بالتعاقد على غرار ما فعلته لفائدة الطلبة المسجلين بسلك الدكتوراه بدء من سنتهم الثانية، وما أقدمت عليه وزارة التربية الوطنية في حملتها التلفيقية لتوظيف 11.000 أستاذ، إثر إعلان الوزيرة بالنيابة جميلة المصلي عن إجراء هذا التعاقد بدعوى بلوغ عدد الطلبة 826.114 بالتعليم العالي، والخصاص المهول في أطر التدريس الجامعي، خلال عرض قدمته أمام المجلس الأعلى للتربية والتكوين، بمناسبة افتتاح دورته العاشرة يوم 22 نونبر 2016.
-لجوء مجلس المستشارين كما فعلت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، إلى التعاقد مع الطلبة الباحثين في سلك الدكتوراه بالجامعات المغربية، لمنحهم صفة مساعدين للمستشارين البرلمانيين للقيام بمهامهم في الرقابة والتشريع وتقييم السياسات العمومية.
-تضخيم كل من لحسن الداودي وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر ووزيرته المنتدبة جميلة المصلي لحصيلتهما التي اعتبراها طفرة نوعية فيما حققاه بهذا القطاع، اعتمادا على لغة الإطناب والأهداف وأرقام الزيادة والنقصان وبلاغة التمني والتبجح والأحلام، دون إشراك على الأقل تمثيلية الطلبة الجامعيين في مختلف القرارات الوزارية التي تخصهم كقرار التعاقد، واجتماعات المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، بصفتهم طرفا محوريا في مهام ووظيفة هذا القطاع الوزاري والمجلس الأعلى على حد سواء.
-إلقاء محمد مبديع الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، اللوم على الموظفين في تعثر إصلاح الإدارة، ونشره "حصيلة" وزارته تحت عنوان تمويهي وتوهيمي: "أهم المنجزات والإصلاحات لوزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة" (2014-2016) ، في حين أنها تتعلق أساسا ببرامج ومشاريع ونصوص تنظيمية وأنشطة تواصلية وتحسيسية وغيرها، وأهدافها التي يرام إنجازها!!!!
-رد وزير العدل والحريات مصطفى الرميد على استفسار أحد الدكاترة حول دفاعه عن الملف المطلبي لدكاترتنا الموظفين عند اصطفافه في المعارضة على عهد حكومة عباس الفاسي، وتراجعه عن هذا الدفاع مدة استوزاره في حكومة ابن كيران، بقوله: "ذلك كان في المعارضة، أما الآن فنحن في الحكومة" !!!!
وهكذا يتبين بكامل الاستغباء والاستحمار والرياء، مدى حجم المناورات الدنيئة والمراوغات البئيسة الشرسة التي لم تفتر حتى في فترة تصريف الأعمال للحكومة الكيرانية المنتهية ولايتها، صادرة من أطراف كان ينبغي أن تكون المساند الأول الداعم لمقترحي قانون دكاترتنا كوزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر والكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي الذين تهافتا على قطع الطريق أمام دكاترة الوظيفة العمومية لولوج مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، باختلاق العوائق واقتناص الحجج الواهية والمبررات المغرضة لوأدهم في رموسهم الإدارية والتربوية، بعدما دافعا باستماتة عن موظفيهما الدكاترة، وتمكنا من تحويل أغلبهم إلى التدريس بالجامعات لشغل منصب أساتذة التعليم العالي مساعدين عن طريق الإعلان عن مباريات شكلية تحويلية على المقاس؛ وهذا الصنيع قمة الانتهازية والفئوية والبيروقراطية كشفت عن بعض حلقاته الكتلة الوطنية لدكاترة التربية الوطنية في موقعها بتاريخ 12 دجنبر 2016، من خلال نشرها لدورية رقم 66 للمكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العالي في موضوع: مباريات تحويل المناصب، مرفوقة بلوائح إسمية للدكاترة العاملين بالجامعات ومؤسساتها.
إن دفع الكاتب العام بأن تحويل الدكاترة من المؤسسات العمومية إلى الجامعات لن يحل مشكل الخصاص في الأطر التعليمية، باعتبار أن غالبيتهم من الذين تم تحويلهم، متجاوزون سن الستين، ومشرفون على التقاعد بعد 5 أو 6 أعوام، هو كلام طاعن في التلفيق والتعويم والتوهيم والجدل العقيم، ملؤه النكران والتعمية والبهتان، وذلك لعدة أسباب، أهمها:
-إن الاستدلال بجزء من بعض، وهم الدكاترة المحولون، على الكل الذي يمثله دكاترة أسلاك الوظيفة العمومية، للبرهنة على أن عملية التحويل لن تحل مشكل الخصاص المذكور، هو فساد في منطق التعبير والخطاب والبرهان والاستنتاج.
-عدم وجود أي قاعدة بيانات وإحصاءات حول سن ولوج هؤلاء المحولين الموظفين الدكاترة إلى الجامعات، منذ بدء عملية تحويلهم، وكذا عددهم وسنهم وتخصصاتهم وتوزيعهم على مختلف مؤسسات التعليم العالي.
-إن الأمر الذي لن يحل مشكل هذا الخصاص هو التعويل على تمديد سن تقاعد أساتذة التعليم العالي مساعدين حتى لو بلغ سن الثمانين أمام الازدياد المطرد في عدد الطلبة الجامعيين الذي توقعت النقابة الوطنية للتعليم العالي وصوله آنئذ إلى مليون طالب/ة سنة 2018.
-إن الخصاص الذي يتحدث عنه كل من الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي ووزير التعليم العالي هو خصاص في تعويض الأساتذة المحالين على التقاعد بصفة أساسية، دون الالتفات إلى الخصاص الأشمل الذي لا يقتصر على التدريس، وإنما يرتكز على التأطير الذي ظل متراكما عاما بعد عام بتنامي أعداد الطلبة كل سنة، حيث لن يسد بتوظيف 1000 أستاذ جامعي سنويا، حسب ما اقترحته النقابة الوطنية للتعليم العالي، أو 1200 وفق تصريح الوزيرة بالنيابة جميلة المصلي، نظرا للتفاوت الكبير الذي تعرفه نسبة التأطير بتعليمنا العالي بين الواقع والمثال؛ حيث تصل في رحابه إلى أستاذ واحد لكل 51 طالب(ة) بناء على وجود 13.127 أستاذ جامعي و 826.114 طالب وطالبة في قطاع التعليم العالي ببلادنا، بينما معدل التأطير وفق المعايير الدولية يقتضي إيجاد أستاذ واحد لكل 20 أو 25 طالب/ة.
-إن النظر إلى سد الخصاص بمفهومه التلفيقي الضيق لدى الطرفين، جعل تعليمنا معطوبا بازدياد نسبة الطلبة، بعيدا كل البعد عن التصنيفات الدولية والجودة والمردودية المرجوة بانتفاء أحد أهم معاييرها: التأطير وفق معدله الطبيعي المتوافق عليه دوليا الذي تلتزم به البلدان الراقية في مختلف أطوار التعليم، الأمر الذي انعكس وبالا، خاصة على الكثير من البحوث الجامعية من صنف الماستر والدكتوراه واتسامها بالتكرار والنسخ والمسخ والتقميش والقرصنة، بل أفضى إلى خلق ريع جديد وسوق لسماسرة تسجيل بحوث الماستر والدكتوراه وتحضيرها وولوج طورهما.
إن تجاوز هذا العطب يقتضي التوظيف المستوعب للخصاص الكامل الآني والمستقبلي لا التوظيف التلفيقي التجزيئي الظرفي الذي سلكته الوزارة، وذلك لتحقيق معدل التأطير البيداغوجي الدولي باعتباره إحدى الخطوات الأولية الأساسية لتحقيق الجودة والمردودية، واللحاق بركب التعليم المتقدم، وتأهيله لولوج نطاق التصنيف العالمي للجامعات.
أما إذا انتقلنا إلى معادلة أخرى وهي نسبة عدد الطلبة الجامعيين التي تقتضيها نسبة عدد السكان دوليا، فالمصيبة أكبر وأوخم، لأن نسبة 826.114 طالب وطالبة على سبيل المثال، ضئيلة جدا مقارنة بعدد سكان بلادنا الذي بلغ 33 مليون و848 ألف و242 نسمة سنة 2014، و بالتالي فإن عدد أساتذتنا الجامعيين البالغ 13.127 وفق إحصاء جميلة المصلي وزيرة التعليم العالي بالنيابة، أو 10.000 حسب إحصاء عبد الكريم مدون الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي، ينبغي أن يتضاعف أكثر من ثلاث مرات عما لدينا الآن، لتحقيق المعدل الموضوعي المتوخى علميا ودوليا في نسبة الأساتذة والطلبة الجامعيين المقابل لنسبة السكان.
وحتى لا نذهب بعيدا للمقارنة بالدول المتقدمة في هذا الظرف والسياق، نأتي على ذكر جارتنا الجزائر الأقرب إلينا إقليميا وقاريا، التي توفرت على أكثر من 54.000 أستاذ جامعي سنة 2015 قبل أن تعزم على توظيف 8000 أستاذ جديد، فضلا عن شبكة جامعية من 107 مؤسسة، و 1500.000 طالب و طالبة، مقابل 40.2 مليون نسمة من السكان إلى حدود يناير 2016.
إن وجود عدد مهم من الدكاترة في مختلف أسلاك الوظيفة العمومية، مكسب نفيس ورأسمال غميس ينبغي استثماره على أحسن وجه قبل فوات الأوان، فهم لا يتجاوزون 4000 دكتور موظف، حتى لو تم تحويلهم جميعا إلى منابر التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، سيبقى الخصاص يلازمنا ما لم يتم تدبيره عاجلا على المدى القريب والمتوسط والبعيد في إطار المعايير العلمية البيداغوجية الدولية.
كنا ننتظر أن تكفر النقابة الوطنية للتعليم العالي عما اقترفته من جنايات في حق ملف دكاترتنا، بسلوكها منحى الصمت والإهمال والتواطؤ، منذ إرهاصاته الأولى إلى الآن، حتى فوجئنا بترهات الأقوال السابقة الذكر، تنم عن هزال في الرأي والتعبير والخطاب والقراءة والاستيعاب والبحث، ومستوى لا يليق بمسؤوليه ومنخرطيه الأساتذة الباحثين. كان عليها أن تخجل من نفسها وتصمت ما دامت لم تحرك ساكنا سواء في عنفوان صولتها على عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي أو أفولها. وعليه كان يجب أن تحدث نقابة وطنية للتعليم العالي خاصة بالطلبة حتى تدافع عن حقوقها المهضومة البيداغوجية والتأطيرية وغيرها، ما دامت نظيرتها المذكورة الخاصة بالأساتذة الباحثين لا تحتضن أي تمثيلية لهؤلاء الطلبة، ولم تعر اهتماما فعليا بحقوقها العادلة والمشروعة، مكتفية بما يعرض عليها من ملفات تخص بالأساس قضايا الأساتذة الباحثين، بل تقف معرقلة أمر التحاق دكاترتنا الموظفين بالتعليم العالي لاستدراك أمر هذه الحقوق لمناهضة الخصاص الكبير والخطير في الموارد البيداغوجية، الذي يشكو منه قطاع تعليمنا العالي، إلى حد أفضى بوزيره محمد الداودي ووزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد إلى تسخير طلبة الدكتوراه خدمة لأساتذتهم الباحثين مقابل 5000 درهما شهريا، بإصدارهما لقرار وزاري تعاقدي مع طلبة سلك الدكتوراه بدءً من سنتهم الثانية للتدريس بالجامعات مدة 15 ساعة أسبوعيا، أي ضعف ما يدرسه أساتذة التعليم العالي، وغيرها من المهام البيداغوجية المندرجة ضمن الأدوار المخصوصة بأساتذتهم الباحثين، حسبما تنص عليه المادتان الرابعة والخامسة من مرسوم الأحكام النظامية المطبقة على هيئة الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي وتكوين الأطر العليا، رغم كون هؤلاء الطلبة في طور التكوين والبحث والتحصيل الذي يقتضي منهم التفرغ الكامل لإنجاز مجموعة من البحوث ونشر بعضها، وإجراء تكوينات تكميلية إجبارية محددة في 200 ساعة، وإنجاز أطروحاتهم !!!
مما لا شك فيه، أن منطق القبيلة والغنيمة والغلبة أرخى بظلاله على عقلية التدبير والتسيير والتكوين، ما يشكل أكبر التحديات التي تواجه مسارات الإصلاح والتحديث ببلادنا، إذ عوض أن ينحو مسؤولونا إلى إيجاد البديل لمقترحي قانون دكاترتنا السابق ذكرهما، بعد رفضهما بحجج واهية وصورية، لجأوا إلى وضع العراقيل والحواجز والعثرات أمام تسوية وضعيتهم المجحفة قصد الاستغناء عن موظفينا الدكاترة، من قبيل:
-إصدار قرار مشترك بين وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر ووزير الاقتصاد والمالية المتعلق بمكافأة طلبة الدكتوراه الدارسين بالجامعات عبر التعاقد معهم للتدريس بمؤسساتها.
-لجوء مجلس المستشارين إلى التعاقد مع الطلبة الباحثين في سلك الدكتوراه بالجامعات المغربية، لمنحهم صفة مساعدين للمستشارين البرلمانيين قصد إسنادهم مهام الرقابة والتشريع وتقييم السياسات العمومية.
-إصدار "مرسوم رقم 770.15.2 صادر في (9 أغسطس 2016) بتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات المغربية"، وما تبعه من القرارات التالية:
- "قرار لرئيس الحكومة رقم 3.95.17 صادر في 11 من ذي القعدة 1438 (4 أغسطس 2017) بتحديد مقادير الأجور الجزافية الشهرية ومقادير التعويضات عن التنقل المخولة للخبراء والأعوان، الذين يتم تشغيلهم بموجب عقود بالإدارات العمومية".
-"قرار مشترك لوزير الاقتصاد والمالية والوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية رقم 1761.17 صادر في 15 من شوال 1438 (10 يوليو 2017 بتحديد نموذجي عقد تشغيل الخبراء والأعوان بالإدارات العمومية".
-"قرار للوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية رقم 1394.17 صادر في 14 من رمضان 1438 (9 يونيو 2017) بتحديد شروط وكيفيات تنظيم وإجراء مباراة تشغيل الأعوان بموجب عقود بالإدارات العمومية".
-بهتان وتحايل الحكومة السابقة على لسان وزيرها المنتدب المكلف بالوظيفة العمومية وإصلاح الإدارة محمد مبديع الرافض لثاني مقترح دكاترتنا باعتباره يتعارض مع تصورها لإصلاح الوظيفة العمومية التي لا تتحمل إحداث هيئة جديدة، حسب تعبيره، بينما لم تمر فترة وجيزة على هذا الرفض، حتى تم إحداث هيئات جديدة إلى متم ولاية هذه الحكومة، من خلال مصادقتها على الأنظمة الأساسية المستحدثة لمختلف هيئات الموظفين، وهي: هيئة موظفي إدارة السجون وإعادة الإدماج، والممرضين وتقنيي الصحة المشتركة بين الوزارات، وأفراد القوات المساعدة، وموظفي الوقاية المدنية والأطباء العاملين بالمديرية العامة للوقاية المدنية والمصالح الخارجية التابعة لها، وموظفي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومستخدمي مجلس المنافسة، وموظفي الأمن الوطني، وموظفي إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة.
-إحالة مقترح قانون دكاترتنا الثاني الذي كان في انتظار مناقشته العامة، إلى ثلاجة القوانين بالبرلمان.
إزاء كل هذا لا يعدو تنصيص الحكومة على الاهتمام بالرأسمال البشري في مختلف برامجها ومشاريعها، إلا تشدقا وبهرجة أمام ما يترجمه واقعنا من حقائق على بساط الواقع، حيث لن تفلح الخطط والبرامج والمشاريع في تحقيق مراميها المسطرة كالنموذج التنموي الجديد، والرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2021-2030، والقانون الإطار رقم 17-51 المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي، ما دام لم يتم إيقاف نزيف الرأسمال البشري لهذه النخبة العلمية الوطنية العليا من موظفينا الدكاترة بتسوية وضعيتها المجحفة وتلبية مطالبها العادلة والمشروعة.
لو اكتنه مسؤولونا فحوى ومرامي مقترح قانون دكاترتنا الذي "يقضي بتتميم المادة 4 من الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية"، لما أعرضوا عن سبيله أو تمادوا في عرقلة مساره بتأخيره وتأجيله وتجميده، ولاستعجلوا تقديمه على مجموعة من المراسيم والقوانين التنظيمية من أجل مناقشته العامة والمصادقة عليه، لكونه يمثل رهان التحديث ودينامو العصرنة والانتقال الديمقراطي والإقلاع الحضاري، خاصة وأن الواقع المزري للإدارة والتعليم حسبما أجمع عليه الخطاب الرسمي والرأي العام الوطني وصل إلى حد لم يسبق له مثيل.
وليعلم الجميع أن هذا المقترح ليس مخصوصا فقط بفئة الدكاترة العاملين بمختلف أسلاك الوظيفة العمومية، وإنما يناط أيضا بمصير جميع فئات ومكونات المجتمع التي تنتظم في عموده الفقري أي مسلسله التعليمي، بدءا من التلميذ الابتدائي وصولا إلى الطالب الدكتور، الذي يتوج في نهاية المطاف بشهادة الدكتوراه التي هي آخر محطة في هذا المسلسل، كما يرتبط ارتباطا عضويا بإصلاح وتحديث التعليم والإدارة والوظيفة العمومية، والنهوض بالبحث العلمي في شتى المناحي والمجالات إلى المستوى المتوخى، وتجسير معابره بين مرافق وقطاعات التعليم والإدارة في بنية متراصة متفاعلة للرفع من الإنتاج والمردودية، وضمان الجودة والحكامة في التسيير والتدبير والاستثمار والتكوين، إنه مشروع إصلاحي تنموي حضاري وطني بامتياز، ورهان الحاضر والمستقبل، وقاطرة التنمية والتقدم والرقي والازدهار.
إن هذا المقترح درس واختبار للديمقراطية والنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص والمساواة والاستحقاق والعدالة الاجتماعية؛ أي القيم والمبادئ الحضارية التي ينادي بها دستور البلاد الجديد لترجمتها على مستوى الواقع.
وعليه دعونا جميع نواب الأمة الحضور بكثافة لاجتياز هذا الاختبار بنجاح في المناقشة العامة لهذا المقترح بالبرلمان في الحكومة السابقة بولايتيها التشريعيتين: الأولى (2012-2017) والثانية (2017-2021)، باعتباره منعطفا حاسما في الكشف عمن هم أنصار وأعداء حاضر ومستقبل البلاد والعباد، بتصويتهم أو رفضهم لهذا المقترح. إلا أن هذه المناقشة لم يتم إجراؤها رغم إعادة تسجيله من طرف فريق الاستقلال للوحدة والتعادلية بالبرلمان تحت رقم 16، ضمن مقترحات القوانين في ولاية حكومة سعد الدين العثماني (2017-2021) ، ما يشي بعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لإصلاح وتحديث البلاد، واستمرارية مناهضي فئة دكاترتنا في عقر البرلمان، الأمر الذي يسوغ بوافر الحجج ودامغ البرهان رفع ملتمس قراءة جديدة لمقترح قانون دكاترتنا بناء على الفصل 95 من الدستور المغربي الذي يخول لعاهل البلاد طلب قراءة جديدة لكل مشروع أو مقترح قانون من مجلسي المستشارين والنواب.
أملنا كبير في أن تستفيد الحكومة الحالية من هذه الأخطاء الفظيعة والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها الحكومة السابقة في حق دكاترتنا، وتضع حدا لهذه المعضلة المخجلة، بمصادقتها على هذا المقترح العادل والمشروع، خاصة وأن فريقها الاستقلالي للوحدة والتعادلية تقدم للمرة الثانية بإعادة تسجيله تحت رقم 137 ضمن مقترحات القوانين بالبرلمان يوم 14 يوليوز 2022، قبل أن تتم إحالته على لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان يوم فاتح غشت 2022، ويبعثه الأمين العام للحكومة محمد حجوي إلى السيدات والسادة الوزراء والوزراء المنتدبين بتاريخ 25 غشت 2022.