حين استدعى المرحوم الحسن الثاني الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي لتشكيل حكومة التناوب في مارس 1998، كان المغرب حينها يواجه معضلتين كبيرتين: الأولى تتمثل في الضغط الممارس على المغرب لتأهيل نصوصه وتشريعاته مع الضوابط الدولية فيما يخص المنافسة ومحاربة الاحتكار الاقتصادي. فيما الثانية تتجلى في ترميم الجراح الدامية التي خلفتها حملة إدريس البصري المشؤومة والمعروفة بحملة التطهير في صفوف رجال المال. وكانت حكومة اليوسفي موزعة بين تيارين: التيار الأول يميل إلى المدرسة الأنجلوسكسونية القائمة على ترك القضاء الجهاز الوحيد لمتابعة المخالفين لقواعد المنافسة وإنزال أقسى الغرامات ضدهم، بينما التيار الثاني كان يفضل المدرسة اللاتينية التي تقوم على إحداث هيأة خاصة تتمتع بسلطة واسعة في حماية المستهلك من بطش وتوحش الرأسمال.
في نهاية المطاف استقر الرأي على الخيار الثاني بوصفه الخيار الأنسب للمغرب وبوصفه (أي الخيار) «ميساج» موجها للطبقة الاقتصادية من أن المغرب لا ينوي خلق «حملة تطهير جديدة». وتم إحداث مجلس المنافسة، إلا أن سياقات المرحلة وانشغال العقل العام للدولة آنذاك بترتيبات سياسية ومالية جعلت مجلس المنافسة يولد ميتا، ولم يتم تفعيله إلا في غشت 2008 حينما عين الملك محمد السادس الأستاذ عبد العالي بنعمور رئيسا جديدا لهذا المجلس.
لكن الهامش الذي رسم لمجلس المنافسة كان ضيقا جدا لم يتعد المهمة الاستشارية، خاصة وأن القانون 06-99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة لم يعرف أي تعديل في اتجاه تخويل المجلس الاختصاصات والآليات التي من شأنها تمكينه من ممارسة مهامه كضمير للمستهلكين وكرقيب عادل على السوق.
وكان على المواطنين انتظار الحراك الاجتماعي الذي فجرته حركة 20 فبراير وتبني دستور 2011 الذي ارتقى بمجلس المنافسة إلى الدسترة في الفصل 166 مما فتح باب الأمل على مصراعيه لتمكين المغرب من تثبيت مبادئ المنافسة وإعطاء مجلس المنافسة كامل الصلاحيات للقيام بواجباته. هذا الأمل سيغذيه خطاب الملك بتاريخ 14 أكتوبر 2011 بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية حين دعا محمد السادس البرلمانيين إلى استحضار «أن دمقرطة الدولة والمجتمع وتحسين مناخ الأعمال يتطلب نهج الحكامة الجيدة بتفعيل المبادئ والآليات التي ينص عليها الدستور... بالتصدي لكل أشكال الفساد والرشوة والريع الاقتصادي والسياسي والاحتكار وكذا العمل على ضمان تكافؤ الفرص وحرية المبادرة الخاصة والمنافسة الحرة».
إلا أن المشاريع التي قدمتها الحكومة الإسلامية بقيادة عبد الإله بنكيران للبرلمان: مشروع القانون رقم 12.104 حول حرية الأسعار والمنافسة ومشروع القانون رقم 13.20 المنظم لاختصاصات وطريقة عمل مجلس المنافسة (وهما مشروعان يرميان معا إلى تعديل القانون 06-99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة) تبقى مشاريع تصب في خدمة اللوبيات بدل خدمة المستهلك وخدمة تحديث بنيات الاقتصاد الوطني.. بدليل أن محمد الوفا الوزير المنتدب المكلف بالشؤون العامة كان في اجتماعات لجنة المالية بمثابة «وزير خف من رزقو» بشكل «قد يخرج الوفا على رزقو». إذ تشبث الوزير بتمرير المشروعين في لمح البصر دون نقاش ودون قبول تعديلات النواب الحاضرين، بل لم يكلف الوزير نفسه حتى عناء الاستماع لملاحظاتهم، وتمسك حرفيا بمشروع لم يتعرف عليه الوفا إلا أياما معدودة عقب استوزاره في هذا المنصب خلفا لنجيب بوليف. وبالغ الوفا في تخويف البرلمانيين من كون رفض التعديلات يصب في خانة «الأمن القومي للدولة»!.
إن هذا الحرص على تمرير الوفا لمشروعي الحكومة لا يلبي إلا مطلبا واحدا، ألا وهو مطلب اللوبيات، ولم يستحضر أن مجلس المنافسة أصبح مؤسسة دستورية وبأنه من مصلحة المغرب توحيد سلطة المنافسة في هيأة تعطى لها كل الوسائل لتتبع وضبط مختلف الأسواق. فالفاعل الاقتصادي ليس دائما ملاكا، بل هو خاضع لـ «النفس الأمارة بالسوء» ويتصيد كل الفرص للربح السريع والاغتناء الفاحش.
صحيح أن التجديد في مجال القانون يكون دائما صعبا، ويواجه التوجه نحو التجديد بذرائع التدرج وبمسلزمات تفادي التسرع وما شاكل ذلك من «هضرة غليظة» تنتجها ماكينة عبد الإلاه بنكيران. فالطريقة التي مرر بها الوزير الوفا (بوق بنكيران في البرلمان) هذا المشروع تسيئ أولا إلى الحكومة، وتسيء ثانيا إلى البرلمان الذي أضحى مصنعا لإنتاج نصوص رديئة بدون جودة، كما تسيئ ثالثا إلى المغرب المقبل على احتضان منتدى عالمي للشبكة الدولية للمنافسة (International Competition Network) في أبريل 2014 بحضور 120 دولة لمناقشة قضايا «السوق والمنافسة» في أكبر مناظرة دولية.
فإذا كان البصري وراء حملة التطهير التي قوضت اقتصاد المغرب عام 1996، فإن الوزير الوفا وراء سياسة «التكوير» التي تضرب مبدأ المنافسة الحرة والنزيهة، حتى يبقى المغرب «بزولة» تحلبها النفوس المريضة والمهووسة بعصر المغرب والمغاربة. فهل سيتدارك النواب ذلك في الجلسة العامة أم سينسفون روح الدستور؟ وبيننا الأيام!!
عبد الرحيم أريري