الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

طارق متري: المثقف والسلطة

طارق متري: المثقف والسلطة

الحديث عن المثقف يأمرنا بالتواضع. فعلى وجه العموم، لم يتوقع المثقفون، في تنوع تحليلاتهم وسردياتهم وفرضيّاتهم، التحولات المذهلة التي عرفتها بلادنا، بحلوها ومرٌها، في السنوات الخمس الماضية. ولمٌ يوفقوا في المجازفة بالحديث عن مآلاتها. ثم إن تسارع الزمن حال دون اعتراف المثقفين بان أدوارهم تغيٌرت ومعها منزلتهم الاجتماعية وقدراتهم على التأثير في الرأي العام ولدى صانعي السياسات. كما صرف أنظارهم عن الإقرار الصريح بأن فئات اخرى من مواطنيهم، لاسيما الشباب، مارست أدواراً كانت في الماضي مقتصرة عليهم. لقد ظهر أمام أعيننا فاعلون جدد. مما يشى بتجاوز ثنائية المثقف والدولة أو بالأحرى المثقف والسلطة التي درجنا على القول بها.

من جهة أخرى، يكتنف التساؤل في علاقة المثقف بالدولة التباس كبير. ذلك أن الالتزام ببناء الدولة شيء ونقد السلطة أو معارضتها شيء آخر. هناك طلب اجتماعي واسع لقيام الدولة بوصفها مؤسسات ترعى مصالح الشعب وتحتكر العنف الشرعي وتحفظ الحقوق وتطبق القوانين. ذلك أن مواطنة المواطنين صنو وجود الدولة وممارستها هذه الوظائف. ويزداد هذا الطلب قوة بظل تفكك دولنا، وضعف مؤسساتها ما خلا الأمنية، وتفسخ مجتمعاتنا بقوة سياسات الهوية والعصبيات ما دون الوطنية.

والالتباس عند الحديث عن علاقة المثقف بالدولة متصل بالخلط، المتعمد أحياناً، بين الدولة والسلطة عوض التمييز بينهما. فالدولة نصاب مستقل يتسم بالديمومة فيما السلطة منحازة ومتداولة، إذا سلمنا بالفكرة الديمقراطية التي ينادى الجميع بها. قد لا يكون الخلط المذكور نظريا لكنه فعلي في الكثير من بلداننا حيث من يستولى على السلطة، وأن بالوسائل الديمقراطية، يستتبع الدولة أو يستحوذ عليها. لعلٌ المثقفين مؤهلون اكثر من سواهم أن يقيموا هذا التمييز، مما يعنى أنهم قادرون على الدفاع عن الدولة ودورها وعلى العمل من أجل بنائها أو إعادة بنائها وبالوقت ذاته الإصرار على مساءلة السلطة وانتقادها، عوض الترويج لسياساتها على غرار شعراء القبائل.

لقد رُسمت ملامح الدور الذى يضطلع المثقف به، حديثا في الغرب وعندنا اقتداء به أو مواجهة له، انطلاقاً من الحكم القيمي الذى يضع سلطة المعرفة في مواجهة سلطة القوة. وذهب البعض مذهباً يحمّل المشتغلين بالمعرفة مسؤولية كبيرة في اصلاح مجتمعاتنا والنهوض بها، وهى مسئولية كادت تتفوّق بنظرهم على مسئولية النخب السياسية. ذلك أننا نرى اليوم، وبوضوح اكبر، كيف تقود الأفكار إلى العنف الإجرامي والدمار وكيف يؤدى غياب الفكر إلى عنف أكبر. أما البعض الآخر فيميل إلى حصر دور المثقف في مهمة قوامها عقلنة مجتمعاتنا استناداً إلى المعرفة الميدانية، لا فرق إذا ما آلت هذه العقلنة إلى استعادة نظام علاقات قديمة أو إصلاح النظم الحاضرة والثورة عليها. ومهما يكن من أمر هذين الرأيين فانهما يتلاقيان في التشديد على أهمية استخدام العقل من غير وصاية على ضرورة وكسر الادعاء بامتلاك الحقيقة من قبل من يمتلكون قوة الفرض ووسائل الإقناع المتعددة. لكنهما يفترقان في تحديد الوظيفة الاجتماعية والسياسية لأهل المعرفة.

ففي الحالة الاولي، يخاطب المفكر المجتمع ويستنهضه من أجل التغيير بعد كشفه أخطاء السلطة وقصورها أو تعسفها. أما في الحالة الثانية، يقف الخبير موقف منتج المعرفة التي إذا ما عمُت واستُرشد بها في السياسات أسهمت في تحديث مجتمعاتنا وتقدمها. وينزع الأول نحو مناقشة القضايا العامة مستخدماً أدوات معرفية متنوعة وخلاصات البحوث في حقول متعددة. ويميل الثاني إلى التخصص. ولا يعنى ذلك، بطبيعة الحال، أن المثقف ليس صاحب اختصاص في أحد حقول المعرفة ولا أن الخبير غير معنى بالقضايا العامة التي تخرج عن حدود اختصاصه الضيقة. تقودنا هذه النمذجة إلى التساؤل عما إذا كان المثقف من النوع الأول أقل تأثيراً، في السنوات الاخيرة، ممٌا كان عليه طيلة القرن السابق ومنذ بدايات عصر النهضة. ومع هذا التساؤل، يتراءى لنا أن النطاق الذى يعمل فيه الخبير إلى اتساع، وعلى حساب الحيّز الذى يشغله المفكر، وأن حضور الخبراء في الحياة العامة فضلاً عن اعدادهم، بات أكثر بروزا من السابق.

وإذا سمح لي أن أضرب مثلا عن لبنان وعن الجامعة التي أعمل فيها، فإن أول ما يلفت نظري هو قدر من الانحسار في أدوار المثقف العام ومعه تناقص أعداد من يرى نفسه، أو يراه الناس، بهذه الصورة. فهناك السياسي الخائب أو المراجع لتجربته والناشط المتحمس للأفكار الجديدة والخارج من صفوف «المجتمع المدني». لكننا نشهد تراجعا لتأثير الأكاديميين المهتمين بالقضايا العامة والمتدخلين فيها والذين يمزجون بين موجبات المتخصص ومسئوليات المثقف العام. ولأسباب مختلفة، تتراوح بين الخيبة والعزوف القسري، يُلاحظ قدر من الانكفاء عند الأساتذة الجامعيين والباحثين إلى العمل الجامعي والبحثي الصرف. بالمقابل، يتزايد أعداد الخبراء، ومنهم هؤلاء الأكاديميون. والخبراء فئتان. واحدة يستدعيها أهل السلطة، فيأخذون منها المعلومات، ولاسيما الأرقام، من غير إشراكها في صنع السياسات والتهيئة لاتخاذ القرارات. أما الثانية فهي أقل عدداً وتضم من يسعون للدخول في حوار حقيقي مع صناع القرار ويتخذون حيالهم موقفاً نقدياً يتعزّز رصيده بمخاطبة الرأي العام والتفاعل مع هيئات المجتمع المدني.

قلت في بداية حديثي إن ما جرى في بلادنا، ويجري، يأمرنا بالتواضع في الحديث عن دور المثقف من حيث استناده إلى سلطة المعرفة. غير أن التواضع هذا لا يعفينا من مسئولية المثقف الأخلاقية. فلا تحتجب وراء الولاءات السياسية المنقادة ولا العصبيات ولا الخوف من قول الحقيقة إزاء السلطة.

(عن موقع "الأهرام")